حديث الجمعة: تونس 2019 أو القطع مع الماضي ورفع رهان العالم المتغيّر
القطع مع الماضي بجميع أشكاله، خاصة الذهنية، هو التحدّي الأهم للسنة الجديدة، وذلك للنجاح في رفع رهان عالم تغيّر، إذ أصبح عالم الجماهير بكل ما تقضتيه من توفّر حقوقها وحرياتها وثبوتها فعليا.
السنة جديدة بتونس تفتحها الذكرى الثامنة لما سُمّي بثورة الكرامة لتُختم مبدئيا بانتخابات رئاسية وتشريعية. وبما أن الثامنة هي سن البلوغ البشري بالنسبة للواجبات، فأحرى أن تكون كذلك عند أهل السياسة، إذ ساسة البلاد أبعد عن مستوى مسؤولياتهم لتعلّقهم بعادات الماضي وقصر نظرهم للأمور مع توقّف فهم على مفاهيم عالم انقضى انتهت معه صلوحيتها.
تخليق مـظاهر الحياة:
لا شك أن ما يميّز السياسة في تونس اليوم، بشكليها المدني والديني أو الإسلام السياسي، هي قضية تخليق مظاهر الحياة العامة والخاصة، أي إكسابها صفة أخلاقية باسم الحوكمة أو الدين، وإن كانت هذه الصفة للتمويه لا أكثر. أما في الجانب الأوّل، فهو يهمّ ميدان المال والمعاملات المالية؛ وأمّا في الجانب الثاني، فيميّز الحياة الشعائرية وممارساتها اليومية. هذا ما نراه بكثافة في نفس الوقت عند أهل السياسة المدنية وأصحاب الإسلام السياسي؛ إنه القاسم المشترك بينهما؛ وليس هو إلا من تلك المظاهر التي يُحرص عليها للخداع، إذ ما يجمع الجانبين هو السلطة والتمسك بها للتسلّط.
ولئن روّج هذا الطرف وذاك لقطيعة بينهما، أو بين نمطي الحداثي الملحد عند أحدهم، والأصولي الإسلاموي المتجمد في دينه عند الآخر، فليس ذاك إلا مجّرد ما يطفو على سطح مجتمعاتنا، كمن يكتفي برؤية الدمّل على البشرة الآدمية دون الغوص إلى كل ما يكونه تحت الإهاب؛ ولا شك أن التعافي لا يكون إلا بالغوص تحت الجلدة، خاصة إذا كانت مجتمعية وكان الدمّل قرحا. ما من بد اليوم في تخليق كل تصرفاتنا، لكن لا باسم الدين وهو من الأمور الخصوصية للمواطن، بل باسم ما يسمّى بالأخلاق المهنية أو الأدبيات، déontologie وهي أساسا مدنية، خاصة في الميدان السياسي. فإن كان لا مناص من الأخذ بالأخلاق، فبالمعنى الصحيح، أي التخلّق بآداب المهنة éthique في تصرفاتنا اليومية، إذ كل شيء سياسة بما أنه حسن التصرف لأجل مدينة فاضلة. هذا يقتضي القطع مع الماضي الذي استعمل الأخلاق للتسلّط؛ وهو لا يزال في العادات، خاصة السياسية، وقد علمنا مدى صعوبة التخلّص منها، ما يفرض حتما رفع رهان ما تغيّر في العالم، مثل رفض توطئة الدين لخدمة رأس المال باسم نموذج سياسي واقتصادي بار ويقتضي إعادة إحيائه. فلم لا يكون هذا ببلادنا؟
القطيعة الضرورية مع الماضي:
إن الالتحام بين مصالح الدين والدنيا الذي نراه بتونس وفي العالم، حيث وجد رأس المال المتوحش أفضل نصير له في الإسلام المتزمت، يفرض الضرورة القصوى لتحرير الخطاب السياسي الراهن مما يشينه. فعلاوة على الخداع الذي ينطوي عليه هذا الخطاب لتشابك مصالح الطرفين الإسلاموي والحداثي، ففيه المضرة لجميع على المدى الطويل، إذ لا تستفيد منه سوى الأنظمة الشمولية. وأنظمتنا تتميّز بالشمولية رغم ما خلقنا من مؤسسات ونظمنا وننظم من انتخابات؛ وهي ستبقى وقتا طويلا على هذه الحالة، قبل المرور إلى الديمقراطية؛ وذلك خاصة إذا علمنا أن النخب المستنيرة بالديمقراطيات العريقة أصبحت ترفض اليوم مثل هذا النظام الذي أصبح مجرّد تدجين لجموع المواطنيين.
لقد طرأ على الواقع المجتمعي تطورات جسيمة لا تأبه لها النظم الحاكمة مما أجّج ويؤجج مظاهر رفض ما كان مقبولا ورائجا في زمن الحداثة المنقضي. فنحن اليوم في زمن ما بعد الحداثة، وهو زمن الجماهير بامتياز، أي تحفّزها لا فقط للحفاظ على حرياتها وحقوقها، بل والمطالبة بأكثر لتفشي مظاهر الإثراء الفاحش للأقليات المتسلّطة. وهذا لا يتم بتاتا بالأخذ بالنمط الغربي الذي أفلس، بل حسب نمطٍ جديدٍ علينا استنباطه للمرور من الديمقراطية الحالية، وهي مجرد ديمومقراطية Daimoncratie ، أي الأمر الخاص بمردة وجن يحسنون امتهانه، إلى ما بعد الديمقراطية Postdémocratie ، ما يمثّل حقيقة الأمر العام، لاهتمامه بالعموم في أبسط ما يهمهم.
و لا بد لهذا النمط أن يأخذ بالروحانيات تماما كأخذه بكل فتوحات التقانة الغربية؛ لكن الروحانيات لا كتزمت ديني، بل كإيمان صحيح يتجاوز الشعائرية إلى الثقافية، ليكون كله في المجال الخصوص تمام الحقوق والحريات. فهذه صفة الإسلام الصحيح كما فهمه أهل التصوّف، لا كما أصبح: مجرّد نسخة لليهودية والمسيحية؛ ولا أدلّ على ذلك إلا بعثنا به لكنيسة وأيجادنا لإكليروس في هؤلاء الأئمة والفقهاء الذين لا يمثلون في شيء الإسلام الذي فيه العلاقة مباشرة بين الله والمؤمن.
هل حان زمن القطع مع الماضي بفتح باب الاجتهاد في ديننا المشوّه لنواكب الرغبة العامة عند الشعب في التوق للتحرر. فلا مجال لتجاهل مثل هذا التوق ولا للحد منه، لأنه كالسيل الجارف، لا بد أن يفرض قوّته على كل ما تحجر في فكرنا سواء كان ظلاميا أو ادعى جزافا التنوير والتطور، لأن العالم تغيرّ ولا يفتأ يتغيّر.
رهان العالم المتغير :
أثبتت مجريات الأمور في العالم، وأيضا بتونس، أن ليس هناك أي قطيعة بين أهل التزمت الإسلامي وأهل الحداثة الرأسمالية المتوحّشة، بل اتفاق بينهما، سواء كان ضمنيا أومعلنا؛ ولعل هذا لا يبان إلا إذا لم نكتف بالظاهر الخادع وغصنا إلى أعماق المظاهر وباطنها. ذلك مثلا ما نراه بتونس بما أنه لب لباب اللعبة الأمريكية والغربية بالبلاد المغاربية.
فالتزمت لا حدود له، وهو إسلامي وحداثي في نفس الوقت، الشيء الذي لم يعد يخفى في زمن ما بعد الحداثة الذي أظلنا. لنأخذ على ذلك مثالا كبير الأهمية من الزاوية الرمزية والاجتماعية، ألا وهي المثلية التي ترفضها عامة جموع الإسلاميين والحداثيين طرا. فالكل يرفض هذا التصرف الشخصي البحت الذي لا مجال لرفضه لمن يدعي حقا الإناسة والتعلق بحقوق الإنسان، وذلك من شأنه أن يجمع الحداثيين والدعويين على الحق، إن صدقت النية لديهما، لا على الباطل كما هي الحال. القطيعة، إن وجدت بينهما، هي مع الماضي التليد، أي الماضي الإسلامي والماضي الحداثي الغربي. والمثلية هي المثال المفيد هنا، لأنها ترمز للقبول بالآخر وتلخّص خير تلخيص أزمة التعايش السلمي عندنا بكل ما فينا من اختلاف، هذا الاختلاف الذي هو أساس الإئتلاف الحق، لا ذلك الزائف الذي يقف عند الرسم ويتجاهل الباطن.
لذا، لا مندوحة لكل من ابتغى التفكير حقا في واقعنا المرير ترك القوالب القديمة التي انتهى دورها مما بقي لنا من عهد الحداثة البائر لاستنباط أنماط جديدة للتفكير تتلاءم مع تغيّر العالم، كأن تتجرأ على الحديث في المسكوت عنه والمضنون به على غير أهله. فهذا من الكثير عندنا، وهو مفتاح المعرفة اليوم، التي هي كما نعلم أوسع من العلم وقد داوم التشبث به مفكرونا فلم يأتوا بجديد في عالم تغير تمام التغير. إننا اليوم لا نعطي الحياة اليومية وما بدا فيها لأول وهلة من تفاهات وتصرفات حق قدرها، إذ فيها الشيء الكثير مما يضفي كعبه العالي على الآني واليومي، لأنه لا يعدو إلا أن يكون تجليات اللاوعي الجماعي والمتخيل الشعبي. ولا مجال اليوم لتجاهل المخيال واللاوعي في بحثنا عن الأداة الفاعلة لفهم واقعنا، ناهيك العمل على تغييره.
هذا أساسا دور المفكر العربي الإسلامي، خاصة وقد كثر اللغو لانعدام الفكر الحر والتمسك بدغمائية لم تعد عندنا دينية فحسب ! وهو باب الخلاص الأفضل لمن تعاطي الفكر بكل نزاهة؛ ما يقتضي، مثلا، الكف عن اجترار مقولة التكفير للحث على التفكير. ولقد بيّنا في العديد من المناسبات البعض من الأمثلة مما يفرضه الواقع التونسي، وخاصة من الزواية القانونية؛ ولسوف نعود إليها حتما في حديث يأتي لاحقا بما أن أهل الحل والعقد يتجاهلونها. فحتى لا يكون كلامنا في النافخات زمرا، لا بد من إعادة الكرّة إلى أن يفرض الحق نفسه على من يتجاهله أو يتظاهر بذلك. بذلك يمكننا أن نحقق في هذه السنة الجديدة القفزة النوعية على مستوى الحقوق والحريات، وهي رهان عالمنا المتغيّر. فالعبرة بالنتيجة والأمور بخواتيمها؛ ونحن نتطلع إلى الأفضل بتونس وهي هذا الاستثناء بالقوة، والذي نريده استثناء فعلا وبالفعل.
نشرت على موقع أنباء تونس