حديث الجمعة: السياسة عند راشد الغنوشي بين البديع والفظيع من الكلام والفعل
السياسية كاللغة العربية، فيها من يحذقها ومن يخبط خبطا. وفي السياسيين ممن يُحسن حقّا العربية، هناك من يعلم ما فيها من بديع، أي هذا العلم للبلاغة العربية الذي به يكون الكلام بديعا أو فظيعا. كذلك السياسة والفعل فيها.
كما نتكلّم عن البديع في اللغة، يمكن الحديث عن البديع في السياسة؛ فهو من البلاغة السياسية؛ وهذا البديع السياسي يمكنّ من يحسنه من توطئة السياسية لأغراضه الخاصة. وأفضل مثال على من يحسن السياسية اليوم بتونس ويستغلها لغايات حزيه هو راشد الغنوشي، الذي يجعل الفظيع السياسي بديعا والبديع الإسلامي فظيعا.
ما في السياسة من البديع اللغوي:
إن من يحذق علم السياسة الحقة فلا يمتهنها نزقا، مثل راشد الغنوشي، هي عنده تماما كعلم الصرف والنحو حيث الكلمة حرف واسم وفعل، ولكلّ موضع له قيمته؛ فالسياسة فيها الكلمة مناط الفعل، وهي كما في العربية ومن يحذقها، علم وفن. لذلك، لا تكتمل الكلمة السياسية إذا طغت فيها الحروف بصفة عشوائية، إذ عندها تنعدم الأفعال من السياسة وتصير كلّها حروفا وأسماء غير ذات مغزى ولا فائدة. فهي لا ترفع علل المجتمع، بل لعلها تصرّفها حرفيا فتزيد في العلّة بينما فخر السياسة معالجة العلل الاجتماعية. وهذا ما يمتهنه بحذق من يجعل السياسة مطية لما ينقض روحها مع التورية الضرورية، كما يفعل راشد الغنوشي، وهو يستعمل البديع السياسي في الدين أيضا.
البديع السياسي أهم ما يميّز متخيّل الساسة العرب، خاصّة بتونس. ونحن نعلم اليوم أنّ المتخّيل هو أساس الفكر، فهو عماد التصرفات التي، وإن بدت واعية كنتيجة عزيمة وعزم، تبقى نتاج ما يختلج في أنفسنا من لاوعي، وما يخفيه متخيلنا الذي تُبنى عليه حركاتنا وتصرفاتنا. لذا، ما سنسوق فيما يلي عمّا يميّز فكر السياسي المسلم من خلال أفضل نموذج له، هو ما في لاوعيه، إن لم يكن في وعيه. والبديع السياسي عنده مسخّر للنشاط السياسي فيجعل منه سلاحا بليغا يستعمله مع الحرص على مظهر الصادق لجعل البديع مموّها على الفظيع من الكلام والفعل.
البديع في اللغة العربية:
لنبيّن أولا ماهية البديع اللغوي الذي أتى من اتّساع العربية، ما يسمح بتصرّفٍ لسانيٍ كبيرٍ يذهب إلى حدّ التجاوزات في باب المجاز وغريب الألفاظ والكلمات الأضداد، أي بمعاني متضادة رغم وحدة اللفظ. وتعود ظاهرة التضاد في اللغة إلى أسباب عدّة، أوّلها اختلاف القبائل العربية في استعمال الألفاظ، ثمّ دلالة اللفظ في أصل وضعه على معنى عام يشترك فيه الضدّان، أو انتقال اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر مجازي، للتفاؤل أو للتهكّم أو لاجتناب التلفظ بما يكره.
على أن البديع االغوي لا يقتصر على الكلمات الأضداد، بل يشمل أيضا الطباق والمطابقة، أي الجمع في عبارة واحدة بين معنيين متقابلين ومتضادين؛ والمقابلة، أي الإتيان بمعنيين وتوافقين ثمّ يُؤ تى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب. تنضاف إلى هذا ما أتت به عادات، كتسمية الجميل قبيحا أو المريض سالما أو الأعمى مباركا، أو التصغير لكل ما يُستحب؛ وهذا من الشائع اليوم في الأسماء، أو كأن يُستعمل لفظ البصير على الأعمى والسليم على الملدوغ. كذلك الحال، حين التهكم، أن نستعمل كنية أبي البيضاء على الأسود.
هذا فيما يخص التضاد المعنوي، أما التضاد اللفظي، فنجده مثلا في كلمات مثل الحميم، وهو بمعنى البارد والحار في نفس الوقت، والبَسل وهو لفظ يعنى الحلال والحرام معا، والمأتم وهو الاجتماع على الحزن والفرح، والبلهاء وهي الناقصة والكاملة العقل، والغابر وهو الماضي والباقي، والجلل أي الصغير والكبير، والقرء وهو الحيض والطهر؛ كما يُسمّي السيد والعبد بنفس الكلمة، أي المولى.
البديع السياسي عند راشد الغنوشي:
عند راشد الغنوشي، البديع السياسي هو البلاغة في توطئة اللغة لتهجين السياسة وقلب المفاهيم بلباقة، سواء كان هذا عن وعي أو لاوعي؛ بذلك يجعل الباطل حقا والحق باطلا بما يحسن من الكلام في ما هو من الفظيع المذموم سياسيا. لهذا نجح وينجح هذا السياسي المخاتل، كما يقول التوحيدي، من جعل البعرة درّة والدرّة بعرة. فهو لا يفتأ يتحدّث عن الديمقراطية بينما يسعى لهدم صرحها، كما يتكلم بالإسلام بينما لا يأخذ فيه إلا ما فسد من فقهه، ما مهّد لداعش والإرهاب، كتغليب الفهم الحرفي للنص القرآني وتجاهل مقاصده، بينما هي الأولى بالاتباع، بل الوحيدة اليوم للحفاظ على مكارم أخلاق الإسلام وقد أصبحت هجينة، تسعى في ركاب الإرهاب.
ورغم أن القاعدة السياسية هي في أن السياسي المحنّك يخاطب الشعب باللغة التي يفهمها، أي الدارجة التونسية، نرى الشيخ يتشبّث باستعمال الفصحى في حديثه؛ والسبب طبعا هو الحفاظ على طلاقة اللجوء إلى البديع. ولعل هذا السبب لاشعوري، إذ يحتّم متخيّل الشيخ تصرّفه؛ خاصة وأنه بهذا يجد في بلاغة اللغة العربية الدواعي الاشعورية اللازمة لخدمة أغراضه السياسية. فباستعماله للعربية، وحسب بلاغة لغة الضاد، يجد راشد الغنوشي الضمانات الوجيهة للتأسيس الأخلاقي والمنطقي لتصرفاته السياسية، أيّا كانت تلك التصرفات، حسنت أو ساءت حسب المعايير العادية. فهو لا يحكّم فيها إلاّ معاييره الشخصية، تلك التي تحكم العربية من خلال ما يميّز البديع فيها. بذلك لشيخ النهضة الطلاقة المطلقة لإيجاد التعليلات اللغوية حتى وإن لم تكن وجيهة حسب قواعد الديمقراطية؛ فبما أنّها وجيهة من جهة القواعد اللغوية للغة الأم، ذلك هو الأساس والمرجع ؛ وغير هذا لا قيمة له.
هذا ما يميز فكر الشيخ الغنوشي حول أهم أخلاقيات السياسة المعاصرة وحقوق الإنسان. فهو لا يجد حرجا في الكلام فيها حسب هوى من يُصغي إليه من أهل الغرب، فيقول شيئا ينال رضاهم بينما لا يعني إلا ما يوافق مرجعية اللغة العربية وبلاغتها العظيمة، أي ثنائية المعنى. لمّا يتكلّم راشد الغنوشي عن الديمقراطية، فهي عنده من الكلمات الأضداد، مضمّنا إياها في نفس الوقت وبدون حرج المعنى المتعارف عليه والمعنى المعاكس الذي يقصده هو وحده. فالديمقراطية عنده ليست حكم الشعب، هي حكم من يحكم الشعب. ولأنّ الشعب هو المسلم، فالحاكم هو الذي يُحسن تمثيل الإسلام. كذلك، في حديثه عن الشعب، ليس الشعب إلا المتمسّك بالإسلام. أمّا كلمة الحريّة، فهي بمعنى الأخلاق، والدين الطاعة، والسيادة الولاء.
بهذا لا يشعر الغنوشي بأنه يُناقض نفسه، ولا يخالف أخلاقه الإسلاميّة التي تمنع الكذب، بما أنّه يتكلم بلغة تتقبّل بلاغتها الكلمات الأضداد. هكذا إذًا، بالأصول اللغوية موطئةً سياسيَا لتصرّفها، نجد عند راشد الغنوشي وحزبه، كما قال علي بن جبلة العكوّك (بتصرّف) :
القول مثل الصبح مبيضّ | والفعل مثل الليل مسودُ
ضدّان لما استجمعا حَسُنا | والضد يُظهر حسنه الضدُ
نشر على موقع أنباء تونس