حديث الجمعة: ما يهمّ تونس ممّا يحدث بفرنسا (1)
الاحتجاجات الجارية حاليا بفرنسا تهم أكثر مما نعتقد، أو نريد الاعتراف به، الوضع بتونس، وذلك إلى أقصى درجة. لذا، من المتحتّم لمعرفة مآل مجريات الأحداث القادمة ببلادنا تتبع أخبار السترات الصفراء بكل عناية لاستخلاص العبرة منها من الآن.
هذه الاحتجاجات لم يكن يتوقعها أو ينبئ بها من لم يكن همّه إلا الظاهر من أهل الاختصاص، سواء السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي، نظرا لأخذهم بالتحاليل المعهودة رغم انقطاعها عن استكشاف الواقع الجمعي بالتعرّف الكافي والشافي على خبايا المتخيل الشعبي واللاوعي الاجتماعي، وهما أساس الفهم الحصيف لما يجري في هذه الحقبة الزمنية الموسومة بصفتها زمن الجماهير.
وضع شبيه بالحالة التونسية:
لئن كان الذي تعيشه فرنسا مفاجئا للساسة ومستشاريهم، فقد توقّعه وقال بحدوثه منذ زمن من لم يكفّ عن الانتباه للواقع المعيش للمجتمع بها. لن نخوض هنا في هذا لأنه لا يعني بلادنا بقدر ما تعنينا تداعياته على أمن تونس الحاضر ومستقبلها القريب ونحن على مشارف سنة حاسمة لا يخفى فيها ضلوع التدخل السياسي الخارجي، بما فيه الفرنسي، أقرب الجيران جغرافيا وتاريخيا، ومن أهمهم مصالحا عندنا، سواء بصفة منفردة أو في النطاق الأوربي.
لنقل كلمات فقط عن تلك الأحداث، أنّها تؤكد ما نتحدث فيه عموما عن القطيعة التي أصبحت فجّة وفظيعة بين أهل السلطة، أيا كانت صفتها، مادية أو معنوية، وخاصة عاطفية دينية، في زمن عودة الروحانيات وضرورة التآزر. فزمننا الراهن الما بعد حداثي يمتاز بالتعطش الشديد لما نبذته فترة الحداثة الغربية، أي الوازع الديني، وهو روحاني بالأساس قبل أن يفسده المتمعّشون من الدين؛ كذا كانت الحال في المسيحية واليهودية، وكذلك هي اليوم في الإسلام رغم انعدام الكنيسة، إذا قام به إكليروس الفقهاء.
هذه القطيعة لم تغب عن نباهة الآخذ بنبض الشارع الفرنسي من المراقبين، فالكلام في طغيان رأس المال بالبلاد واشتداد وطأة التيار المتعجرف منه على الحياة اليومية معروف ووقع نقده وانتقاده. وقد تأكّد هذا بعد انتخاب الرئيس الحالي الذي أتى بمزيد من المغالاة في ذلك الطابع، عملا بالاعتقاد السائد بفرنسا أن أهل البلاد بقر، كما قالها أحد زعمائها الكبار. مثل هذا التعالي الفظ الذي يشين الفكر الفرنسي يغذّي القطيعة بين أهل الامتياز ومن لا ينتمي أو يرفض الانتماء للقلة النخبوية في البلاد، مما زاد الطين بلة بعد أن تعددت فيها مظاهر القطيعة بين الدولة الرسمية والدولة الشعبية في ضواحي المدن. إلا أنها كانت تفسّر، لمجرّد التعمية وغاية في نفس يعقوب، على أنها مرتبطة بالإسلام، بينما يتجاوز الأمر الدين، بل وحتى التجارة به، إذ هي سياسوية بامتياز؛ وسنعود إليها في الجزء الثاني من هذا الطرح.
لذا، رغم كل ما كان معلوما من خطورة الوضع بفرنسا، وقد وصل ببعضهم القول أنها تتدرج نحو التفقير شيئا فشيئا، شبيهة ببلاد العالم الثالث، فقد غذّى تجاهل النخبة الحاكمة الثورة الصامتة بالبلاد، التي كانت تنتظر مجرّد شعلة لاندلاع حريقها؛ فكانت في القرارات الحكومية الأخيرة، ما خصّ منها المحروقات بالذات. ولا شك أن هذا، لئن يشبه حال المجتمع التونسي اليوم، فهو يذكّر بالأخص بالبلاد إبان الانقلاب الشعبي وما حدث فيها مع التدخل الأجنبي الذي رفع الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم.
تنامي القطيعة مع الشعب:
هذه القطيعة بين النخب الحاكمة الفرنسية والشعب هي التي تهمّنا بخصوص ما يحدث ببلادنا. فعلاوة على أن فرنسا ديمقراطية وتبقى عند الكثير من أهل الرأي بتونس مرجعية هامة في فهم التقدّم السياسي والحوكمة الرشيدة، فهي لم تسلم من الأزمة الحادة التي تعصف بالديمقراطية. هذا بالإضافة لما للمحتل السابق من التأثير الوافر على القرار السياسي بها، سواء اعترفنا به أم لا، في نطاق الإكراهات الخارجية، الغربية أساسا، وعلى رأسها الأمريكية وتوابعها العربية لمنظوريها المموّهة عن حقيقة طبيعتها وجنسيتها.
بادئ دي بدء، ما يحدث بفرنسا يقوّض خرافة التخلف لبلادنا، إذ مظاهره اليوم في كل بلد، بما في ذلك المتقدّم منها، لأن التخلف في العقلية التي تتحكّم في التصرّفات. لذا، يكفي أن تتغير الظروف ليظهر تخلف المتقدّم، وهو الفرنسي هنا كما نكتشفه عبر ما نراه من تعاسة في شوارع وساحات مدينة النور، وليظهر أن في المتخلف أيضا ما من شأنه تجسيد التقدم لو توفرت عنده الآليات التشريعية والمؤسساتية. وهذا ما يرفضه حكام البلاد المنعوتة بالتخلّف، علما وأنهم غالبا، إن لم يكن ذلك دوما، من نتاج القرار الغربي أو الإفراز لاستراتيجيته في البلاد الحريصة على مصالحها الرأسمالية والعسكرية.
إن الديكتاتورية التونسية لم تدم ما دامته إلا طالما خدمت مصالح الغرب توازيا مع مصالحها الذاتية؛ وإن استبدالها بمنظومة جديدة فيها الاستغلال الفاحش لأفسد ما رسب وبقي في الإسلام لم يكن إلا لأجل المحافظة على خدمة تلك المصالح، بل ولخدمة أفضل بمزيد فتح البلاد على رأس المال المتوحش في نطاق تحالف مع إسلام جاهلي فيه الخزي لمبادئ الإناسة.
أقول فيه الخزي، بل هو الخزي كله، لأن هذا الإسلام الذي صعد إلى الحكم دعيّ، لا يمت بصلة للإيمان التونسي المتجذر في عموم الشعب، الذي هو إسلام متسامح، يحترم الحقوق، كل الحقوق، والحريات، كل الحريات. هذا هو الإسلام الذي كان من صالح الغرب التحالف معه، بما أنه يتناغم مع الروح التونسية دون أن يكون من شأنه الإضرار بمصالح الغرب في البلاد، إذ لا شك عند أهله، متصوفة الإسلام، في انتماء تونس إلى المنظومة الاقتصادية الغربية. أما الإسلام المتزمّت، حليف الغرب الحالي، فليس من شأنه إلا توظيف الدين في فهم غير صحيح لمصالح آنية مع تغيير النمط الاجتماعي والديني بالبلاد، ما من شأنه حتما تقويض هذه المصالح على المدى الطويل.
تعيش فرنسا اليوم جانبا مما لم تخلص منه بعد تونس رغم ما في أبنائها وبناتها من حكمة وطموح للتغيير السلمي، وهو ما يجعلها استثناء يجب الحفاظ عليه لا تقويضه بدعم أخرق غير مشروطة لإسلام متنكّر لمبادئه. فلا شك أن العديد من السترات الصفر، كما سيتبيّن ذلك لاحقا، من جنود خفاء الإسلام المتزمت الدعي. لذا، للخروج من الأزمة، بفرنسا وتونس على حد السواء، يتوجّب التنصل من سياسة تدعم ما فيه تقويض السلام في الإسلام وحوله؛ ويكون هذا بداية، بالسعي في الحث على تحيين فهم هذا الدين، من جهة،وقوانين البلاد من جهة أخرى، في نطاق سياسة داخلية وخارجية تسعى إلى رتق الهوة الساحقة بين النخب والشعب.
الوضع الحالي يقتضي لا محالة العديد من الإجراءات، إضافة لما تم اتخاذه؛ إلا أن التي نتجاهلها عادة، رغم ما فيها من نتائج سريعة على المستوى الذهني، لهي التي يأتي بها تشريع جديد متجدد في المواضيع المسكوت عنها. هذا ما لا تقوم به النخب عندنا ولا تشجع عليه النخب الحليفة والصديقة، إذ لا تسهر هذه وتلك إلا على حظوظ أقلية محظوظة لمصالح آنية. وذاك ما لا يفعله أيضا الإسلام السياسي التونسي الماسك بزمام الأمور، ما يؤكد سوء نيته في السعي لبناء ديمقراطية مستساغة، مدار الجزء الآتي من حديثنا.
نشر على موقع أنباء تونس