حديث الجمعة: النشأة المستمرّة للتزمّت في الإسلام
التزمّت في الإسلام نشأ مع نشأة إسلام السياسة الذي بدأ يتجلّى، كما سبق أن بيّنا، مع هيمنة قريش على الدين الجديد؛ وهذا تزامن مع فتح مكة، ثم أخذ يتمكّن شىئا فشيئا من مفاصل الدولة الجديدة مستغلا طبيعة الإسلام الثنائية لصفته الروحانية كدين وصبغته السياسية كمعاملات للدنيا. ولئن كانت هذه الطبيعة السياسية للإسلام التيرب الخصب لدعاة إسلام السياسية، فليست هي العامل الأساسي للتزمّت الديني الذي مهّد له سياسيون بامتياز جعلوا من الدين مطية لأطماع دنياوية ليست هي من الدين في شيء. فالتزمّت السياسي بالتسلّط ورفض حقوق الناس وحرّياتهم يفرّخ التزمّت الديني.
وما من شك أن هذا النشاز كان واضحا منذ ظهور الدين الجديد بين روح الإسلام كما فهمها العرب، وقد تنزّل الدين بلغتهم، والفقراء من أهل الصفة، نواة أهل التصوّف، وبين تجلياته الرسمية كما يتقمّصها الأمراء والحكّام بما فيهم الخليفة الراشد الثاني عمر الفاروق. لقد كان هذا الأخير أوّل حاكم متسلّط في دولة الإسلام، إذ خالف بطباعه المتجبّرة ما عُرف عن الرسول وأبي بكر، خليفته الأول والأوحد حقيقة، بما أن عمر اختار سريعا لقب أمير المؤمنين. ولا شك أن في هذا ما يؤشّر على تغيّر طبيعة الحكم في الإسلام بعد موت صاحب الرسالة وقيام دولة الإسلام، خاصة مع التزمت الذي سيميّز حكّامها.
التزمت في عهد الخلافة الراشدة:
إن نشأة التزمّت السياسي التي بدأت مظاهرها منذ فتح مكة أخذت تتدعمّ شيئا فشيئا، فهي لا تختفي أحيانا، عند تغلّب الروح الأصيلة للإسلام، أي روحانياتها، إلاّ لتعود بقوّة بعد حين وباسم الدين، مدّعية أنها روحه الأصلية، وليست هي إلا دعيّة. لقد بان هذا بجلاء في فترة الخلافة الراشدة رغم ما أُحيطت به من أسطورة الحكم الأفضل في الإسلام الذي انتهى مع قيام دولته لما يفرضه الحكم عموما من عقم المباديء الأخلاقية.
معلوم أن الخلفاء الراشدين هو النعت الذي يُطلق على خلفاء الرسول الأربعة الأوّلين؛ آخرهم علي بن أبي طالب الذي اعتلى الحكم في الوقت الذي أنهت فيه الدولة الإسلامية انتقالها من طبيعة إلى أخرى، أي من الروحانيات إلى الطبيعة السياسية بل والسياسوية عند التزمّت. كان ذلك بالمرور من نظام فيه آليات السلطة متمركزة حول الدين، الذي هو إيمان مكنون في ملاذ وسط محيط يُراد منه السلام وإن كان عداء كله، أي تيوقراطية غير رسمية، إلى نفوذ حكم باسم الله، متمركز حول سلطة سياسية بشرية متجلّية في كل طاقاتها لخدمة هذا الحكم، بما فيه دعامته، أي الدين، وذلك على أراضي أصبحت شاسعة لا حد لها أو تكاد، يُراد منها العداء وإن كانت سلاما، إذ لا سلام إلا بالتسليم لهذه السلطة والخضوع لها.
لقد استعمل الإسلام، قبل توسّع دولته، السلطة السياسية لأجل غاياته الخاصة الدينية؛ أما بعد انتشاره الهائل السريع، فقد أصبح بنفسه آلية لغايات سلطة غدا نفوذها هو الأعلم بكل شي، بما في ذلك الدين، مع كلّية تواجده في كل مظاهر الحياة.
في هذه المحيط الجديد تماما، كان عليّ بن أبي طالب، آخر الخلفاء الراشدين بمثابة الظاهرة المفارقة تاريخيا، فهو آخر ممثل لأهل السياسة من المسلمين بادوا أو ندروا، ممن له إدراك صحيح للإسلام. إن ما لم يعرفه علي طيلة حكمه ولم يقدر عليه لهو التوصّل إلى كيفية حمل الناس، دون أن يكون فظا مثل عمر، على إعانته في ترويض السلطة السياسية خدمة للدين. فقد تغّيرت المفاهيم وأصبح الناس يرضخون لإرادة البشر في الانعتاق من ربقة الأخلاق الدينية، حتّى وإن أدّى ذلك إلى الخضوع لسلطة نفوذ مدني غير أخلاقي. لذلك رأينا ما آلت إليه سياسة عثمان التي عاكست تصرّف عمر، فعصفت سماحته بحكمه وبحياته في نفس الآن. لذا، مع علي، لم ينته فقط عهد الخلفاء الراشدين، هذه الحقبة التي لم يكن فيها النفوذ بعد ملكا لسلالة بعينها، ولو أنه بقي في قبيلة دون غيرها. إنه ليرمز أيضا لنهاية الإسلام الصحيح؛ لهذا جعل منه أتباعه أيقونة لأخلاقيات تلك الفترة، كما جعل المسلمون تلك الخلافة راشدة؛ وقد ضاع الكل حسب سنّة الله في ما خلق.
الحقيقة إن التزمّت اشتدّ في زمان عثمان وتدعّم في الحرب بين علي ومعاوية مع من كانوا يُنعتون بأصحاب البرانس، وهم القّراء الذي ادعوا الاختصاص في فهم الدين وكان فهمهم متزمتا. والحقيقة أيضا أن هذا التزمّت كان متناغما مع تزمّت أهل السياسة في تطبيق شوكة سلطانهم؛ ألم يصل مثلا الغلو عند بعض الساسة إلى لعن الله ورسوله على المنابر بلعن عزيز على صاحب الرسالة، أي ابن عمّه، كما فعل معاوية مع علي بن أبي طالب ؟ منذ ذلك الحين، أصابت ثمرة الدين نهائيا دودة الأمور الدنيوية، مما أتاح الفرصة لتنامي التزمت، بل ونشأته من جديد كلما قضى عليه حاكم مستبد فأحياه استبداده بعد حين، حال ظهور بوادر ضعف منه. ذلك لأن الإسلام ودعوة التمسّك به هي على الدوام من أفضل الشعارات الثورية؛ ولقد عاينّا ذلك مع الخوارج، أو الحرورية، رغم خطأ فهمهم للبّ لباب الدين، إذ تجاهلوا روحه ومقاصده، فضيّقوا من تسامحه تضييقا مجحفا حملهم على الإجرام في حقّ الإسلام وحق الأبرياء.
نشأة التزمّت مستمرّة في الإسلام:
إن التزمت في نشأة مستمرّة في الإسلام لصفته السياسة كما بيّنا، إلا أنه ليس حتميا أن يكون دين سياسة؛ فليست الحتمية إلا في نشأته المستمرة كلّما طغى الحاكم الآخذ بالإسلام وتجبّر؛ إذ عندها، لا مناص لأهل هذا الدين من استعمال دينهم لمواجهة التسلط السياسي المتجبّر بما هو أعتى منه، أي تزمّت ممثال، لكنه ديني بحت، أي أشد قساوة وتجبّرا بما أن قوتها ربّانية أو مدّعية ذلك. لقد عاينا هذا بصفة منتظمة في التاريخ العربي، خاصة بإفريقية حيث مثّل الإسلام أفضل سلاح لأهل البلاد الأمازيغ الذين وجدوا في تزمت الخوارج خير سلاح للدفاع على حريتهم وتعلقهم بها؛ أليسوا هم الرجال الأحرار ؟
ولا شك أيضا أن هذا التعلّق بالحرية وإمكانية توظيف الإسلام للدفاع عنها هو الذي جعل العرب تنتصر لدين محمّد إلى حد الغلو فيه لتطويعه حسب أهوائها. وليس هذا إلا صورة معبّرة عما قيل في العرب من صفة اتفاقهم على ألا يتّفقوا. هذا، ولئن استُعملت هذه المقولة للتهجين والهجاء المقذع، فمن شأنها أيضا الاستعمال في المدح، إذ هي كذلك ، بالنسبة للحصيف الفطن، من دواعي الفخر والافتخار لنزعة العرب في النقاش والجدل إلى حد العقم ورفض الرأي الأخر؛ إلا أن ذاك، في نفس الوقت، الرفض الصريح للرأي الأوحد.
ذاك طبعا من ثوابت التعدّدية وهو من روح الديمقراطية. إلا أنه يقتضي النظام لا الفوضى، وهو دون أدنى شك في وجود المؤسسات، خاصّة ما لها من سلطة تنظيمية لضمان الرأي والرأى المخالف دون تعسّف أو قمع لأي أحد منهما. ومثل هذه المؤسسات منعدمة عند العرب أو هي شكلية، وذلك لأسباب عدّة، نذكر منها خاصة، في زمننا الراهن، تدخّل القوى الخارجية بأكثر حدّة مما مضى في شؤونها الداخلية للعولمة بكل مقتضياتها التي أناخت بكلكلها. فلئت أمكن لليهودية والمسيحية التطور والخلاص من التزمت الذي كان طاغيا عليها في جو من الحرية الفكرية، خاصة بالنسبة لليهودية التي استفادت من الروح الديمقراطية التي كانت سائدة ببلاد الإسلام، خاصة بالأندلس، لم يُسمح بذلك للإسلام، لا بالأمس ولا اليوم نظرا لوقوعه في قبضة الامبريالية. وهذا يضمن الديمومة للتزمّت في الفهم الآنف الذكر كصراع ضد تزمّت أفحش.
ومن الأسلحة التي يستعملها اليوم أهل المصالح في الغرب والشرق ضد الإسلام الروحاني، إضافة للتحالف بين التزمت الرأسمالي والتزمت الإسلاموي، هذا الحرص الشديد على أن يتقوقع أهله داخل حدود بلادهم الضيقة كما كان حالهم داخل جزيرتهم قبل الانتشار في العالم مع الإسلام وباسمه. فبذلك تزداد انقساماتهم، إذ من المعلوم أن انعدام الآفاق الرحبة يأتي بالتأزم لا محالة. وهذا معروف عند ربّات البيوت في الطبخ ممن يستعمل القدر الضاغظة الذي لا بد من تهؤئته؛ لهذا زخر التاريخ العربي سريعا بصفحات مخزية حتى عند الزمن الذي عُد إشراقا، أي زمن الفتوحات الإسلامية، لأجل هذا النزعة في النشأة المستمرّة للتزمّت في مختلف تجلياته.
إلا أنه من الخطأ الاعتقاد أن جدليّة التزمت هذه تنفي قابلية المسلم للعيش المشترك المسالم، فالإسلام يبقى في روحه الأصلية الأصيلة سلام روحاني، إذ لا شك في مدنيته لأنه مدني بطبعه لما فيه من اهتمام بالمدينة والمدنية إلى حد التلوّن بالسياسة ومفاسدها من الغلوّ والتزمّت. على أن هذا الثراء، كما أنه يأتي بالأفضل، من شأنه الانزلاق إلى الأسوأ؛ لذا، من الواجب العمل الدؤوب للعودة إلى منابع الإسلام خارج سجن الفقه والشريعة، وليسا هما إلا الاجتهاد البشري الذي بار وفسد، بل وأفسد طبيعة دين محمّد الذي تهوّد وتنصّر جرّاء ما رسب فيه من إسرائيليات خلقت في الإسلام بيعة وكنيسة بينما لا رهبنة ولا كهانة فيه.
نشر على موقع أنباء تونس