حديث الجمعة: ضرورة الافتاء بأن لا حج اليوم لانعدام الاستطاعة
طالب العديد من أهل الإسلام الصحيح، كما طالبنا، التوقف عن الإضرار بالدين كما نفعل، إذ أن الحج أصبح في خدمة مصالح أعداء الإسلام دون علم عموم المسلمين الذين يجعلون أموالهم في مسخ تعاليم دينهم. لذا، طالبت أخيرا نقابة الأئمة التونسيين بتعطيل فريضة الحج هذه السنة. وقد كنّا بينّا سابقا مدى انقلاب الحج الحالي إلى متاجرة بالدين؛ وهي بحقّ عود على بدء، إذ عاد الموسم الديني إلى ما كان عليه قبل الإسلام، مجرد تجارة نافقة لأهل البيت المكي.
فإذا كانت تلك التجارة سابقا لصالح قريش، التي طالما عادت الإسلام وحاربت روحه ولم تدخله إلا نفاقا للحفاظ على مصالحها، فهي اليوم في خدمة هرطقة وهابية ليس لها أي علاقة بالإسلام الصحيح إلا استغلال عقيدته خدمة لأغراض أتباعها ومن يساعد على فرض وجودها في مكة، قلب الإسلام، أي الامبريالية اليهودية المسيحية. فمن لا يعلم كيف تمّت إقامة الدولة الوهابية من طرف بريطانيا ودعمها من طرف أمريكا؟
ليس فرض الحج إلا بالاستطاعة:
إننا نؤيد طلب الأئمة التونسين لمفتي الديار التونسية، بل ولكل ديار الإفتاء في العالم الإسلامي، بإصدار فتاوى لإبطال الحج لا هذه السنة فقط، بل وما يليها، لما هو عليه اليوم من مسخٍ لتعاليم الإسلام الصحيحة. ونبيّن أيضا، في حديث الأسبوع القادم، أنه لا مناص من التفكير في إبطال منظومة الحج الحالية برمّتها بالعودة للمعنى الصحيح للحج في الدين القيّم؛ فقد انتفى شرط الاستطاعة الذي به يقوم فرض الحج وبدونه ينتفي. أما اليوم فنخصص حديثنا لشرط الحج الذي لم يعد متوفّرا.
الاستطاعة، لغة، هي القدرة على الشيء؛ والقدرة تعني حرية الفعل وعدم الفعل؛ بالتالي، لا وجوب في ما فيه شرط الاستطاعة، فهو متروك لصالحب الفعل، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. معنى هذا أن الحج هو مما يُقبل فيه الفعل والترك؛ فهو فرض في تقدير صفته وجوبية المبدأ، أي زيارة الرحمان في بيته، واختيارية طريقة الزيارة. ما يعنى أن للمؤمن أداء الحج بصفة اختيارية في طريقة القيام به. ما يعني إمكانية زيارة الله خارج مكة، بما أنه لم يعد للحج بها صفة القداسة لاصطباغ الحج باعتبارات تجارية لا علاقة لها بالدين.
لقد درب أهل الإسلام خطأ علي فهم هذا الشرط في حدود مادية ضيّقة هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام ومقاصده. فالمعنى الصحيح للاستطاعة، كما نستشفه مما سبق ونعود إليه لاحقا، ليس المتداول اليوم، بما أن أهل التأويل فرض معنًى آخر لها، هو الذي عبّر عنه ابن عرفة بقوله أنه قدرة الوصول للموسم، مما يعني توفّر الزاد والراحلة. هذا يبيّن مدى خصوصية هذا الفهم وضيق مجاله للاستطاعة؛ وقد وقع في الكواكب الدرية لمحمد جمعة عبد الله إنها فقط إمكان الوصول إلى مكة ومواضع النسك إمكانا عاديا بلا مشقة عظيمة مع الأمن على النفس والمال الذي له قيمة عند صاحبه. كما يضاف في حق المرأة سفر الزوج معها أو محرم أو رضاع أو طهارة أو الرفقة المأمونة في حج الفريضة. طبعا، كل هذا من اجتهاد الفقهاء لا مما أتى به الدين، ولا يأخذ بالصحيح من الاستطاعة.
أما الشافعي، وقد علمنا مدى معرفته باللغة العربية إضافة للفقه، فقد بيّن أن الاستطاعة لها وجهان في قوله «من استطاع إليه سبيلا» (آل عمران 97) : أحدهما أن يكون مستطيعا ببدنه وآخذا من ماله ما يبلغه، والوجه الآخر أن يكون معضوبا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال. هذا يقرّبنا من جديد من المعنى الصحيح. ثم ورد في الكليات لأبي البقاء اللكنوي أنها التهيؤ لتنفيذ الفعل بإرادة المختار من غير عائق. ويستعمل الفقهاء، الذين يقولون أن الاستطاعة هي شرط وجوب الحج، الاستطاعة والقدرة بمعنى واحد، أي إنهم يستعملون كلتا الكلمتين بمعنى القدرة. كل هذا يدعّم الفهم الصحيح للاستطاعة الذي تجاهله أهل الإسلام.
المعنى الصحيح للإستطاعة:
الاستطاعة الصحيحة حسب التعريفات للشريف الجرجاني، كما ذكره ابن الكمال، هي أن ترتفع من مرض أو غيره؛ ولا شك أن المرض في الإسلام ليس مرض البدن فقط، بل هو مرض الروح ومرض المجتمع بما فيه من ظلم وبؤس وفقر وجهل وانعدام ذات اليد والأساسيات لعيش كريم لغالبية الشعب؛ فهذا يهم كل مسلم، بما أن الإسلام هو التكافل قبل كل شيء.
وقال الراغب أن الاستطاعة، وهي استفعالة، من الطوع، تكون بوجود ما يصير به الفعل ممكنا. هذا يؤكد ما قلناه، أي أنها اسم للمعاني التي يتمكن المرء بها مما يريده من إحداث فعل؛ فالاستطاعة أخص من القدرة. بذلك، يمكن أن تتاح لنا القدرة للحج إلى مكة، ولا نفعل ذلك لانعدام ما نريده من الحج، أي التقوى الصحيحة، وهي في الانتباه إلى حال إخوتنا في المجتمع والعمل على تغيير ظروف عيشهم والتحسين منها بتستعمال مال الحج تماما مثلما نفعل في مال الصدقة، إلا أن هذا يكون على مدى أعظم ونطاق أوسع.
وعن الاستطاعة الحقيقية، قال المناوي في «التوقيف على مهام التعريف» والجرجاني في «التعريفات» أنها القدرة التامة التي يجب عندها صدور الفعل فلا تكون إلا مقارنة له. وهي التقوى في نية الحج، فإن انعدمت التقوى، انعدمت الاستطاعة للحج. وهذا يذهب بنا أيضا بعيدا عن المعنى المعتمد حاليا في الفقه بخصوص الاستطاعة في الحج.
ولعلنا نجد أكبر مثال للاستطاعة في التاريخ الإسلامي في حادثة إفتاء فقهاء الإسلام في بلاط الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بحلية تغيير وجهة الحج من مكة إلى القدس خلال الحرب الأهلية الثانية بينه وعبد الله بن الزبير، إذ منع حج مكة حتى لمن كان قادرا على ذلك لاعتبارات سياسية محضة. هذا يبيّن أن الاستطاعة انعدمت في ذلك الزمن لا فقط لأن مكة كانت بين أيدي عدو الخلافة الأموية، بل أيضا لأن الخليفة الأموي رفض أن يحج الناس إلى مكة حيث عدوّه، فحمل المسلمين على الحج إلى بيت المقدس، إذ هي من المقدّسات الإسلامية.
وبعد، هل المقدّس الإسلامي هو بضرورة ماديا، مكانا مثلا؟ أليس هو أيضا وخاصة في الفعل النبيل الذي به تتم مكارم الأخلاق التي جاء الرسول الأكرم لإتمامها؟ فما هي التقوى إن لم تكن في الكسب الخيّر؟ وأي كسب أفضل من التطوّع بمال الحج في ما يفيد أهل الإسلام من بناء مدارس ومستشفيات ودور الأيتام، وغير ذلك من أفعال التقوي الي فائدتها تعم البلاد. إن لب الإسلام حقيقة لفي هذه التقوى التي هي معاملات قبل أن تكون في التقوى التي هي مجرد شعائر؛ إذ الله غنى عن ذلك، وقصده يكون أيا يتّجه العبد بوجهه ما دام صافي النية، صادق السريرة.
نشر على موقع أنباء تونس