حديث الجمعة: رمضان يمتحن التقوى، فأين الامتحان مع فرض الصوم العلني؟
رمضان على الأبواب، ومن الضروري التذكير، إذ في ذلك منفعة للمؤمنين، أنه الصوم ليس في الامتناع عن الأكل والشرب، بل هو الامتحان من الله للمؤمن في كبح جماح رغباته للشعور بالعطش والجوع ومشاركة الفقير، مدة شهر من الزمن، محنته طيلة السنة. هذا مغزى شهر الصيام، وهو من التقوى الصحيحة التي فقدناها بتعاطينا المراءة في الدين واعتمادنا للمظاهر الخدّاعة.
إننا بفرض الصوم على الناس نمنع الامتحان الذي لا يكون إلا بوجود الشهوة والتصدّي لها بالامتناع عن الأخذ بها. وها هي الدولة، التي من واجبها السهر على حماية الدين من العبث به، لا تسهر على منع التظاهر بالصوم ومنع حق الإفطار لمن شاء. إنها غارقة قي المتاجرة به بحرصها ألا تتغير الحالة الراهنة بما فيها من تجاوزات لا للقانون فقط، وذلك بالاعتداء على حريات الناس في عدم الصوم المضمونة في الإسلام ، بل وللدين أيضا، بعملها على أن يبقى رمضان الشهر الذي تكثر فيه التخمة عوض أن يقل القبول على الأكل والشرب. فالحكومة تسهر على تزويد السوق أكثر من الحرص على منع التجاوزات المخلّة بالقانون والأمن العام.
فهم الفقهاء الخاطىء لرمضان:
لقد ساد عند الفقهاء فهم خاطىء لرمضان وللصوم، وهو من التمسّك بالقشور وترك اللب. فعدم الأكل والشرب ليس الورع في رمضان، بل كل الورع والتقوى في التزام الصوم مع مخالطة من لا يصوم. هذا هو رمضان وامتحان الصوم الذي لم نعد لا نعرفه ولا ندعو إليه! ولقد حان الوقت لإصلاح فهمنا الخاطىء للدين عموما ولرمضان خصوصا لتعلّق الناس بهذا الشهر، وذلك من باب العادة أكثر منه من باب العبادة. ونحن نعلم قيمة العادة في حياة البشر؛ فكم من مسلم يصوم ولا يصلّي؟ بل بين من يصوم كم يأتمر بأمر الله في الصيام عن سوء الأخلاق قبل الامتناع عن الأكل والشرب؟
إن تمسك الفقهاء بفهم رمضان على أنه وجوب الامتناع عن الأكل والشرب العلني لفيه مفسدة للدين والإفساد لروح رمضان ومغزاه؛ إذ هو يشجّع على التظاهر الكاذب باحترام الدين بينما لا رياء في الإسلام. فالصوم الصحيح لله لا للعباد؛ ولا بد من الحرص، لا على ما مراقبة ما يفعله الناس، بل على حسن النية تجاه الله، أيا كان فعل الغير، إذ من واجبات المسلم خفض النظر وغض الطرف، خاصة عمّا لعل فيه ما يسوء الناظر، بينما ليس هو إلا من حرية الآخر، إذ الإسلام يقدّس الحقوق والحريات، وللناس في طباعهم يختلفون.
الإفطار العلني إذن لمن أراده مضمون شرعيا في الإسلام الذي يضمن أيضا حق التجارة بما فيها من فتحٍ للمطاعم وللمقاهي. وقد رأينا كيف أن أهل الإسلام الأوائل كانوا ينفضّون عن الرسول عند قدوم عير التجارة؛ فكيف لا ينفضّون اليوم عن الفقهاء ممن يقول بوجوب الصوم علنا ومنع الإفطار العلني وهو يشوّه الدين السمح ولا يخدمه!
متاجرة الدولة بالدين وبرمضان:
إن فساد فهم هؤلاء افقهاء للدين لهو أيضا من فساد تعاطي الدولة مع الدين، إذ مسؤوليتها كبرى في إصلاح المفاهيم الخاطئة لا التشجيع عليها؛ فليس ذلك حمايةً الدين ورعاية حقوقه، بل هو الإضرار بمقاصده والمتاجرة به.
ونحن نعاين مدى فحش هذه المتاجرة كل سنة مع شهر رمضان، إذ تنقلب مصالح الدولة إلى هذا التاجر الذي يسععى جاهدا لأن يحث الناس على الإسراف في الأكل والتخمة بالسهر جدّيا على توفير السوق بكل ما يجب ولا يجب. كما أن سلطاتها تسهر على منع الناس من الأكل والشرب علانية بينما هذا من حقّهم المضمون في الدين نفسه الذي ما منع قط حق الإفطار لمن أراده. فالصوم لله وحده، كالدين كلّه، ولا يحاسب عليه وفيه عبده إلا الله وحده بلا شريك. أيا كانت معرفته بالدين وقدره في الفقه، إذ الله دوما هو الأعلم.
فهلاّ سعت السلط التونسية، بداية من هذا الموسم الرمضاني الذي هو على الأبواب، في الكف عن تجارتها الرخيصة بالإسلام، فصححّت فهمها له بأن سعت لتحرير النوايا الحسنة في احترام رمضان؟ يكون ذلك بالتأكيد علنا وفعلا على من شاء الصيام فله ذلك على ألا يفرضه على غيره، إذ في صومه مع غير الصائمين أفضل الدليل على حسن سريرته وسلامة فهمه لدينه واحترامه لحرية غيره. كما أنّ من لم يبتغ الصوم، فله ذلك أيضا، وبكل وضوح وعلانية، لأن الإسلام دين اليسر والتسامح والقناعة بمعقولية تعاليمه، وخاصة بصدق النية في الأخذ بها.
وجوب الصوم السرّي لا العلني:
إن الإسلام الصحيح يفرض وجوب الصوم دون مراءاة ولا تظاهر البتّة، إذ ذلك من النفاق وفساد النية، وهي أساس الإسلام، إضافة لفساد الصيام بما أنه يصبح عندها من باب القهر لا الحرية والقناعة والاختيار الحر. لذا، من يدّعى وجوب فرض الصوم العلمي في بلاد الإسلام ليكذب على الدين الذي ما كان يوما دين الرهبوت والنقموت. فالإسلام دين حرية العبد التامة في الأخذ بتعاليم الدين وابتغاء وجه الله لا لمرضاة الناس أو من يدّعي الكلام باسم الله، إذ لا كهنوت له ولا أحبار، بما أن علاقته مباشرة مع عبده الذي لا يسلم أمره إلا له؛ لذا يبقى حرا، كامل الحرية في ما عدا علاقته مع ربّه.
حان الوقت إذن في الإسلام لإعلان وجوب الصوم دون تبجّح وتظاهر به، احتراما لروح القرآن وتطبيقا لمقاصده؛ وتبعا لذلك، حان الوقت لإطلاق حرية الإفطار العلني في رمضان كحافز من حوافز حسن النية للصائم الذي لا يداهن، أي المسلم الحقيقي. بذلك يتم الامتحان للصائم الصادق الصدوق والفرز مع الصائم الذي يمّوه في دينه. وبذلك أيضا، في نطاق حق الناس في الإفطار، يكون رمضان شهر التقوى الحقيقية لا ما عهدناه من التخمة والكسل باسم الدين.
وبعد، أليس هذا ما يحدث في أرجاء العالم بالبلاد غير الإسلامية؟ فهل منع إفطار الناس المسلم الحقيقي من الصوم مع احترام غيره في حقوقه وحرياته؟ هل تكون تلك البلاد غير الإسلامية في احترام الأخلاق أفضل من بلاد من قال الله فيهم أنهم خير أمّة أخرجت للناس؟ أين نحن من هذا؟
إن الأمر بالمعروف اليوم في رمضان لهو الأمر يالصوم المعروف والصحيح عن السلف، أي الصوم السرّي؛ أما النهي عن المنكر، فهو النهي عن منع الناس من حرّياتهم في الإفطار العلني إن شاؤوا وأرادوا ذلك، فيكون باسم دينهم، دين الحقوق والحريات. لهذا، على السلطات التونسية هذه السنة الحرص كل الحرص على الاحترام الحقيقي للدين، وهو يقتضي رفع كل الموانع المعتادة في حرية الصوم والإفطار، وعلى رأسها حق التجارة الحرّة التي تقتضي إبطال المراسيم المانعة لفتح المقاهي والمطاعم في النهار أيام الصوم، بل وأيضا تلك التي تمنع تجارة الخمرة وشربها. فالإسلام لا يمنع شرب الخمر، بل يحرمّ فقط الشرب للصلاة وإلى حد السكر.
فهلا رأينا رمضان هذه السنة يرفع ذاك الفهم الخاطىء في حلّية الخمرة وقد بلغ الخور إلى حد اختلاق الأحاديث، ومنها منع مسْكها، بينما مسَكَها من هو أفضل من كل من ادّعى ذلك من الفقهاء، أي روح القدس جبريل في ليلة إسراء الرسول الأكرم! وسنذكّر بهذا في حديث الجمعة القادمة عسى يعود الوعي لأهل الإسلام لإنقاذه من الغربة التي أصبح فيها إلى حد الدعدشة، هذا الإسلام الدعي الداعشي الذي نرى له بعض الأثر في عقلياتٍ منّا.
نشرت على موقع أنباء تونس