حديث الجمعة: عندما يصبح الفقيه أعلم من النبي!
ذكرنا في الحديث السابق، في معرض حديثنا عن حقيقة العلم، أن المعرفة الصحيحة، خاصة إذا تعلّقت بالحكمة اللدنية، هي الجهل مع المواضبة على التعلّم، وذلك للاقتراب من المعرفة لا الوصول إليها، إذ يستحيل هذا على ابن آدم.
ونخصص هذا الحديث لنفنّد ما يدّعيه الفقهاء اليوم من العلم بأحكام الله والجزم بصحة قراءتهم لها، بينما لم يعلموا إلا البعض من حكمته تعالى، بل النزر القليل منها، إذ غابت عنهم أشياء عدّة مما لا يعلمه إلا الله ومن لا يدّعي العلم بل الجهل العليم، وهو العلم المستديم.
العبرة من قصة النبي موسى مع الخضر:
إن كل فقيه يدّعي معرفة حكمة الله في أحكامه ومقاصدها ليس إلا جاهلا بها؛ فهو بذلك يعمد للارتفاع بعلمه إلى منزلةٍ ليست له ولا يصلها أبدا؛ بل هو بصلفه المعرفي يبيّن أنه ليس أهلا لها. ذلك أنه بادعائه العلم يجعل نفسه أعلم ممن هو أعلم منه، أي النبي، وقد ثبت أنه، رغم علو كعبه في العلم، جاهل بحكمة الله، فما ادّعى معرفتها في كنهها، بل تبليغها بكل صدق وأمانة، إذ هو الأمين.
ولا شك أن أفضل الدليل على ذلك قصّة الخضر مع النبي موسى وهي مناط الآيات 60 - 82 من سورة الكهف. فهوذا القرآن، الذي لا يُسمّي الخضر، واصفا إياه بأنه عبد من عباده من الذين وهبهم رحمة من عنده وعلّمهم علما، أي أنه من العلماء، يُبيّن كيف أن رحمة الله وعلمه لا يختص بهما أهل الدين ولا حتى الأنبياء. فليس للإسلام أهل بمعنى الحيازة، إذ هو ملك مشاع بين المؤمنين لا تفريق بينهم إلا بالتقوى؛ وهي أولا وقبل كل شيء تقوى القلب قبل أن تكون تقوى الجوارح.
إن قصة موسى مع الخضر تبيّن جليا كيف لم يصبر النبي على ما رأى من الأفعال التي لا علم له بوجوه صوابها؛ فالنبي موسى يحكم بالظاهر وبمبلغ علمه على صواب المصيب وخطأ المخطىء، بينما أفعال الخضر تقع بغير دليل ظاهر لرأي العين على صوابها لارتباطها بأسباب تحدث آجلة غير عاجلة لا علم لغير العارف بالحادث عنها؛ فهي غيب. ومن الواضح أنه لا يحيط بعلم الغيب خبر بشري يقول علما إلا بوحي من الله لعله لا يأتيه دائما للنبي المقيّد برسالته، بل للعارف الذي يغوص ويتبحّر، بإرادة الله لا في علوم الدين وحدها، بل وفي فنونه.
نبي الإسلام بشر غير معصوم في طبيعته الآدمية:
لعل ما وقع للخضر مع موسى لا يختلف عما كان من شأنه أن يقع لنبي الإسلام معه، رغم أنه خاتم الأنبياء؛ فقد علمنا قيمة موسى في القرآن. لقد كان الصديق النصوح لرسول الإسلام خلال معراجه إلى السماء؛ فهو ممن أشار عليه بما أخذ به. كما أن دينه مما سعى الإسلام لإعادة الاعتبار إليه بالعودة به إلى الحنيفية حسب الدين الإبراهيمي، وهو القاسم المشترك بين الأديان الكتابية.
هذا طبعا لا يقلّل في شيء من قيمة الرسول الأمّي، الذي ميزته أنه، قبل كل شيء، العبد من عباد الله الذي لم يميّزه خالقه عن غيره من البشر إلا باجتبائه للرسالة؛ أما في غير ذلك، فليست له أية عصمة كما بيّن الفرقان في العديد من مظاهر حياة الرسول. فلئن حمّله الله رسالته، لم يكن له إلا البلاغ؛ أما في غيرها، فقد كان بشرا من شأنه الاجتهاد وجهاد النفس، بما في ذلك الخطأ، وهو ميزة الطبيعة البشرية في الأرض الدنيا؛ وهذا رغم ما فيه من كمال شخصي إذ جاء لإتمامه مكارم الأخلاق. لذلك عبس الرسول وتولّى، ثم أخطأ في البعض من شؤون الناس، بما فيها الحربية، كا أنه لم يسلم من وسوسة الشيطان؛ إلا أن مجاهدة للنفس وتزكيته لها المستدامة مع بركة الله جعلته ينتصر فيتزكّى. وهذا بلا شك قدر ابن آدم الذي من شأنه وواجبه مجاهدة النفس بدون هوادة؛ ولا يكون ذلك إلا بحرية ثابتة في التصرف بكل طلاقة إذ هي أساس المسؤولية.
الحرّية في التصرّف عن حسن نية من الإيمان:
هكذا نتبيّن مدى ضرورة الحرية في التصرّف في دين الإسلام بعد توفّر النية الصادقة؛ فما نفع تحريم الشيء بانعدامه؟ أليس ذلك مما ينفي عن العبد ما يريد الله له من امتحانٍ لرغبته أولا في التزكّي ثم إرادته الصادقة في ذلك ثم سعيه المجتهد الدؤوب للنجاح في جهاده هذا؟
إن حرية التصرّف لمن أوكد أسس الإسلام الذي حرّر العبد من كل القيود سوى التسليم لله؛ وهو في ذلك العبد المسؤول عن تصرفاته لأنه حرّ فيها لا يأتمر إلا بما يمليه عليه ضميره. هذا هو الإسلام الصحيح الذي تألّه فيه بعض الفقهاء باجتهادٍ بشري أقاموه مكان حكمة الله ومقاصده، ومن بينها ضرورة الامتحان، بل والمحنة والبليّة؛ ألم يعلموا حقيقة ما سمّوه بأنفسهم فقه الابتلاء؟ كيف يكون ذلك بدون حرية، مثل القدرة على إيتاء المعاصي، حتى يأذن الله بالتعرّف على سبيل الهدى وقد عدّد في ذلك السبل، ومنها الكفارات والتوبة، مؤكّدا خاصة على ضرورة إيتاء العمل بالمثل لا فرضه قسرا.
الفقيه الذي يدّعي حيازة المعرفة طاغوت جاهلي:
يقول تعالى في مفتتح سورة العنكبوت ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. كيف يجهل إذن أهل الفقه عندنا اليوم هذا التوجّه العلمي من الله في تصريف شؤون عباده ودينه؟ كيف يدّعي حيازة المعرفة بينما لا يسمح له الدين بها، إذ هي للناس أجمعين، هذا الأفق الذي لا بد أن نسلكه ولا يهم أن نصله، فلا مجال لذلك؛ المهم هو سلوكه، ويكون حسب اجتهاد كل واحد، مصيبا كان أو مخطئا، لأن الله يجازي في كلتا الحالتين حسب صحة النية، ولا شيء غيرها.
إن الفقيه الذي يدّعي حيازة المعرفة والكلام باسم الله لهو بمثابة طاغوت جاهلي غايته التسلط على أذهان الناس والقيام بينهم بدور الرب البشري، أي السيد الآمر الناطق؛ فمتى كان له هذا في دين الإسلام الذي تبقى فيه العلاقة مباشرة بين الله وعبده، فلا كنسية أو بيعة مسيحية ولا معبد يهودي؟
لقد حان الوقت للإطاحة بكل الطواغيت التي قامت في الإسلام؛ ولا شك أن البداية في ذلك من واجب الفقيه نفسه بالاعتراف بمحدودية فقهه، ففتواه مجرد اجتهاد بشري لا مشروعية دينية مطلقة له؛ بل هي، في أفضل الحالات، من الاجتهاد العلمي الذي ليست الحقيقة فيه إلا آنية مرتهنة بالبحث والتدليل والجدل الطارىء Le fait polémique كما أثبت ذلك العالم الفرنسي غاستون باشلار.
نشرت على موقع أنباء تونس