حديث الجمعة: من أجل فتح ملف خلق القرآن من جديد
ما عُرف بمحنة خلق القرآن في الإسلام كان بداية انحطاط حضارته؛ ونظرا لفائدة المداواة بما فيه الداء، يتوجّب فتح قضية خلق القرآن من جديد للخروج من مأزق الإسلام اليوم.
اشتهر المعتزلة بكونهم أصحاب العقل في حضارة الإسلام، فكان فكرهم مستنيرا عقلانيا، ومنه فكرة خلق القرآن، لأنه لو كان أزليا لما بقي الله واحدا أحدا، بينما التوحيد هو أس الإسلام وجوهره. إلا أن أهل الاعتزال أخطؤوا في فرض رؤيتهم بالقوة معتمدين في ذلك على شوكة الدولة، فكان هذا منهم تصرّفا أخرق أدّى إلى هدم ما بنوه، مما زجّ بكل الفكر العقلاني التنويري في غياهب الانحطاط التي لا زلنا نعاني منها إلى يوم الناس هذا.
انحطاط الإسلام سببه غياب الفكر الحر:
إنه ليغلط من يعتقد أن انحطاط حضارة الإسلام مردّه الاحتلال الخارجي فحسب. نعم، ما حاق ببلاد الإسلام، بداية من الغزو المغولي إلى الحروب الصليبة، أضعفها، مانعا عودة الصحة إلى بدنها المعتل. إلا أن هذه الهجمات الخارجية لم يكن لها أي فعل إذا لم يُمهّد لها الطريق الفكر الإسلامي ذاته بغلقه باب الاجتهاد، حاكما على العقول بالتحجّر، ما منعها من التصدّي للعدوان.
لقد بدأ الإسلام السلفي، منذ انقلاب أصحاب النفوذ على أهل الاعتزال، بالتسلّط على كل تجلّيات الفكر العقلاني معتمدا في ذلك على نفس الآلية التي استعملها عقليو الإسلام، أي شوكة الحاكم. بل إن منظريه طوروها حتى أصبحت سلاحا فتّاكا بين أيدي الحكام لخدمة طغيانهم، وذلك بطمس كل علامة تحرّر في فهم الدين وصرف معانية البليغة، دون تقيّد بنصه.
فكر ما قبل الانحطاط كان حداثيا قبل الأوان:
قبل ذلك، عرف الإسلام طفرة حضارية سبقت الدولة العباسة وعصر التدوين، أعطته أفضل ما أمكن للعقل البشري ابتداعه من فكر علمي عالمي تميّز بالحرية التامة فالإبداع والعبقرية. لقد اخترع العربي المسلم قواعد لغته وتفنّن في فهم القرآن بغريبه ومجازه، فلم يستح من قراءته على أوجه مختلفة، بل ومتناقضة، لأن القرآن ورد على أحرف متعدّدة وكان متقدما على زمانه بما أن العقل فيه لم يكن ما فهمه المعتزلة وتغلّب من بعد على الغرب، أي هذا العقل الديكارتي، إنما كان حسيا Raison sensible، لا تتنافض فيه الأمور بقدر ما هي تتفاعل وتتكامل، وذلك كاللغة العربية بما فيها من ثراء إلى حد أن الكلمة تعني الشيء وضده؛ وتلك هي الكلمات الأضداد.
ولا شك أن هذا البديع اللغوي الذي منه معجزة القرآن هو ما يسمّى في العلوم الاجتماعية المعاصرة بالفكر المركّب Pensée complexe والفكر الأضدادي Pensée contradictorielle. وهو أفضل ما يميّز اليوم هذه العلوم، إذ لم يعد العقل في فترة ما بعد الحداثة التي أظلتنا الفكر العقلاني كما عرفناه زمن الحداثة الغربية، إنما هو فكر حسّي بالأساس، الفكر الذوقي كما تفطّن له الغزالي وكما نظّر له أخيرا علم الاجتماع الفهيم sociologie compréhensive.
الفكر الحر لا ُيفرض بالقوة:
خطأ المعتزلة كان في إرادتهم فرض رأيهم بالقوة رغم وجاهته وعلو كعبه، إذ الفكر الحر والرأي الحصيف يفرضان نفسيهما بقوة الحجة لا بتسلط الحاكم، خاصة إذا كان جائرا. لقد أدّى فرض القول بخلق القرآن، رغم وجاهة الطرح، إلى محنة كان الفكر الإسلامي في غنى عنها، فلم تكن محنة الرافضين له فحسب، بل الفكر الإسلام عامة، إذ أدّى ذلك إلى غلق باب الاجتهاد.
وتماما كما أراد المعتزلة فرض رأيهم النيّر بالقوة، جاء بعدهم أصحاب الفكر الظلامي ففرضوا رأيهم الأخرق بالقوة أيضا؛ وهذا ما نعيشه إلى اليوم؛ إذ نرى أهل التزمت يعتمدون على شوكة السلطة لفرض قراءتهم الخاطئة للإسلام. لهذا كانت محنة خلق القرآن في نفس الوقت بداية انحطاط الإسلام ودوامه بما أن أهله لم يراجعوا أنفسهم بالقول بخلق القرآن، أي حرية تأويله؛ وهذا ما يفرض فتح الملف من جديد لتخليص الدين من المأزق الذي هو فيه.
ضرورة القول من جديد بخلق القرآن:
كل ما عاشه الإسلام ما كان له أن يكون لو لم تُحكم السلفية قبضتها على عقول الناس باسم قضية خلق القرآن، مستعملة أسلوب العقليين الذين اعتقدوا خدمة العقل بينما كانوا يهدمون صرحه.
والحال اليوم نفسها عند السلفية؛ فهي تعتقد خدمة الإسلام بينما لا تعمل إلا على هدم أساسه. فلب الإسلام هو الحرية في فهم أحكامه وتصريفها حسب مقاصده دون التقيّد بمقتضيات زمن ولّى واجتهاد سبق؛ ذلك لأن قوة دين القيمة في الاجتهاد المستدام. فالسلفية الحالية ليست تنافح إلا على نفوذ سياسي وسلطة معنوية تضيفها إلي تسلط مادي لمجرد التحكم في عقول البشر وقد خلقهم الله أحرارا. فمتى استُعبد الفكر في الإسلام؟ وهلاّ عُدنا للكلام فيما أدّى للظلامية لتقويم ما اعوجّ فينا وفسد؟
نشر على موقع أنباء تونس