حديث الجمعة: لا تكفير في إيمان الإسلام الصحيح!
طلع أخيرا الشيخ فريد الباجي بشطحة بينت مدى الحاجة للخروج اليوم من الفقه الإسلامي القديم الذي أثبت فساده بما أنه أصبح مطية للإجرام الداعشي. فها نحن نرى مثالا لذلك عند من اعتبرناه من الفقهاء المستنيرين، فإذ هو يكفّر اليهود !
بيّن الشيخ الباجي، لا محالة، أن كلامه لا يعني عدم القبول باليهود في تونس، إنما ذلك الكلام النظري الذي يفرضه الفهم الديني. وهذه قراءة عتيقة للإسلام يتوجب القطع معها، فهي ليست من الإسلام الصحيح، إذ الإيمان في الإسلام لا تكفير فيه للغير، بل القبول به كما هو، على حاله.
ما هية الكفر والإيمان:
التكفير هو نعت الغير بالكفر، وهو لغويا تغطية الشيء. وقد أصبح المعنى المتعارف عليه دينيا هو تغطية ما حقّه الإظهار؛ ومنه الكفران كستر نعمة منعم بترك أداء الشكر الواجب له؛ والمنعم الأفضل هو الله؛ وأعظم الشكر له هو الإقرار بوحدانيته والقبول بدينه. من المتفق عليه عند الفقهاء إن أعظم الكفر هو جحود الوحدانية وشريعة الله ونبوة من أتى بها. ومن المتفق عليه أيضا أن الكفر على أربعة أنواع : كفر إنكار وكفر جحود وكفر عناد وكفر نفاق. فحسب الفقه القديم، هذه أربعة تصرفات لا مغفرة فيها من الله لمن يلقاه يوم القيامة.
أما الإيمان في الإسلام، بصفته خاتم الأديان، فله منزلة خاصة تعلو مرتبة الإسلام المجرّد؛ فالمسلم من أسلم وربما لم يؤمن تمام الإيمان، بينما المؤمن هو من أسلم وآمن. ولا شك أن الإسلام المعني هنا هو الإسلام الثقافي، أي التام، لا الإسلام الشعائري؛ فهو الإسلام الحنيفي. لذا، ليس الإيمان الإسلامي الصحيح ضرورة الإسلام كما عهدناه حسب شعائره المعروفة، بل هو الحنيفية المسلمة، وهي دين التوحيد الإبراهيمي.
إن العقيدة الإسلامية بهذا المعنى مبنية أساسا على صدق الإيمان، لأن الإسلام دين يتوجه للعقل أولا وقبل كل شيء، لا العقل المجرد، بل الحسي، المتأصل في الواقع المعيش، العقل كما فهمه الغزالي مثلا. لذا، اهتم الدين الإسلامي الصحيح بخير ما في الإنسان، هذا العقل الحسي، إضافة لمشاعره وعواطفه؛ وقد علمنا أهمية النية في الإسلام. ولا شك أن النية الطيبة، مع العواطف الصادقة النبيلة، هي مكارم الأخلاق التي جاء الرسول الأكرم لإتمامها. كل هذا يجعل للغير في دين الإسلام قيمة كبيرة؛ فلا إيمان بدون احترام الآخر، خاصة في اختلافه؛ لذا لا إسلام بهذا المعنى للإيمان بلا تكريس للغيرية.
لا تكفير في الإسلام اليوم:
التكفير في الفهم الفقهي الخاطىء، وذاك ما ورد في كلام الشيخ الباجي، هو عدم التصديق بكتاب الله أنه من عند الله، وهذا هو الكفر بكتاب الله؛ والكفر بالإيمان هو الامتناع عن العمل بما يلزمه الإيمان. فما الذي يُلزم به الإيمان؟ هل يلزم بما جاء في الإسلام من شعائر؟ طبعا لا، بما أن هذا من الإيمان بالإسلام لا من الإيمان الحنيفي الذي لا يرتبط بملة واحدة، رغم أننا صرفنا الحنينيفة على الملة الإسلامية لكون الدين الإسلامي خاتم الرسالة السماوية.
إنه لا يجب الخطأ هنا، إذ الإسلام هو خاتم الرسالة السماوية لأخذه بالإيمان الأعظم، أي العام، لا بالإيمان الصغير، أي الإسلام. فكما فرّق الإسلام بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبو، فهو يفرّق بين الإيمان الأصغر، أي الإسلام، والأيمان الأكبر، أي الحنيفية؛ فهي إذن، إن كانت مسلمة، فذلك لمفهوم الإيمان في الإسلام لا لشعائر الإسلام.
بذلك، المؤمن في الإسلام يعترف بما سبقه من الأديان إلى حد أن للمسلم حق الصلاة في الكنيسة والبيعة، والعكس طبعا مضمون لليهودي والمسيحي للصلاة في المسجد. هذا هو الإسلام الصحيح الذي غاب على أذهان فقهاء المسلمين في زمن غبر ولا بد من الخروج منه لأنه ليس إلا من الإسرائيليات التي رسبت في دين القيمة فمسخت تعاليمه الإناسية، وهي صالحة لكل البرية.
تفريعا على ما سبق، نرى أنه لا تكفير في الإسلام الصحيح، خاصة اليوم بعد أن توطدت رسالته وأصبح دينا قائم الذات يأخذ بمجامع القلوب. فلا مجال عقليا وأخلاقيا لمواصلة استعمال السلاح الذي كان متوجّبا لإقامة صرحه، إذ هو بعد قائم؛ وإلا كان هذا من باب الهدم لا البناء. فهل نواصل الحفر واستعمال معاول البناء بعد قيام البنيان؟
إن كل من يواصل الاعتماد على ما وصلنا من فقه تآكل، بل وبار، خاصة في تكفير الناس، ليس سعيه اللاشعوري إلا هدم صرح دين القيمة. فلا مجال لدعم الإسلام اليوم إلا بالاعتماد على مقاصد شريعته السنية التي فيها كل الخير لدين علمي التعاليم عالميها. أما اجتهاد السلف، فلا بد من ترك فيه كل ما لم يعد صالحا واستنباط الجديد حسب روح الدين وروحانياته. وليس هذا بالصعب ولا الجديد بما أن أهل التصوف بيّنوا لنا منذ أول الإسلام الغث من السمين وصحيح الباطن من باطل الظاهر. فهلا كف فقهاء الرسم عن الإساءة لدينهم كما فعل الشيخ الباجي عن غير قصد دون أدنى شك؟
نشرت على موقع أنباء تونس