مالك بن نبي.. النابغة الجزائري المغمور
لعله من المنصف القول إن مالك بن نبي (1905-1973) هو المثال الأسنى للنبوغ الجزائري عندما يناطح أئمة الفكر العالمي؛ فهو من مصاف القديس سان أوغيستان، وليد بونة.
ونحن نكتفي بذكر هذا الرجل دون غيره لصفته اللاهوتية وقيمة أعماله في تطوير فهم الديانة المسيحية. فالفكر النصراني الحديث عيال على إسهام هذا الجزائري المسيحي العبقري. ولا شك أن الحال يكون نفسه غدا بالنسبة للفكر الإسلامي مع عبقرية إسهام بن نبي.
ذلك أن هذا النابغة عمل بنفس الطريقة على إحياء علوم الدين الإسلامي، فنجح أي نجاح في فكرٍ نيّرٍ رغم تجاهل المسلمين وأهل بجدته له إلى اليوم، إذ بقي بن نبي مغمورا، وكأنه من المنبوذين للخطر الذي يمثله فكره على من يتاجر بالدين ويتمعش به سياسة.
بن نبي... الترياق ضد الإسلاموية
إن فكر بن نبي غذّى ويغذّي العديد ممن آمنوا بقدرة الإسلام على الإتيان بحضارة جديدة متجددة تضاهي ما كان، بل وتثمنه زيادة وزيادة. إلا أن هذا يقتضي قراءة أصح مما تم إلى اليوم للتراث الإسلامي التليد.
لئن يؤسس بن نبي فكره على الإسلام وعلوية تعاليمه، فليس ذلك كما يفعل أهل التزمت من الإسلامويين؛ فلا إسلاموية عند المفكر الجزائري، إنما فكر نيّر يأخذ بكل معالم الحضارة البشرية دون دغمائية.
إن الإسلام عند بن نبي حضارة كونية تأخذ بكل فتوحات العقل البشري وفكر أهله، أيا كانت مشاربهم، مع هذه المسحة الروحانية القرآنية التي أخذت بمجامع قلوب أعظم المفكرين الغربيين أمثال فولتيير وجوتة وسبنغلر ويونغ وغيرهم.
هذا ما يسمح بنهضة إسلامية متجددة ومتأصلة حقا في الإسلام، لكن دون تزمتٍ، لا إسلاموية التي لا تأخذ إلا مما رسب في الإسلام من شوائب غير إسلامية.
بن نبي... النهضة الإسلامية الحقة
بيّن بن نبي نظرته للإسلام منذ سنة 1947 وهو في الأربعين من عمره بكتابه «الظاهرة القرآنية» الذي ذكّر بميزات الفرقان في روحانياته خاصة وقيمه حسب مقاصده إضافة لحرفه. نُشر هذا الكتاب بالجزائر بتقديمٍ من طرف الشيخ الأزهري عبد الله دراز الذي لم يحجم عن القدح ضمنيا في عدم اختصاص بن نبي الفقهي، وكأنه يريد حصر أهلية الكلام في الدين على الفقهاء كما الحال عند الشيعة التي تأخذ بولاية الفقيه.
نعم، لم بكن بن نبي مفكرا مختصا في علوم الدين ولا في الإلهيات، فتكوينه علمي محض، إذ كان مهندسا كهربائيا؛ إلا أن غزراة معرفته ونباهة فكره أهلاه للغوص في كل المسائل بما فيها الدينية، ففحصها خير فحص ونبه لما مرض فيها، واصفا العلاج الأفضل.
يذلك، وبعد رواية «لبّيك» وهي الوحيدة في رصيده التي ظهرت سنة 1948، نشر كتابه الذي لخّص فيه «شروط النهضة»، وكان ذاك عنوانه، سنة 1949. وقد جاء بتقديم الدكتور عبد العزيز الخالدي وهو ممن يتجاهله الجزائريون كما فعلوا مع بن نبي. في هذا المؤلف، كما في الذي أتى بعده: «وجهة العالم الإسلامي»، بيّن بن نبي نظرته للواقع التعيس للإسلام ووصفته لما يجب القيام به للخروج من المأزق.
إن أول الخلاص من المرض يتمثّل في التفطّن لما سمّاه مفكّرنا القابلية للاحتلال، وهي هذا التمرّغ بين أحضان الفكر الهجين المقدّس للمفهوم الغربي المادي للحضارة، متجاهلا ثراء الفكر الشرقي كما ثمّنه الإسلام.
وقد بيّن بن نبي بوضوح أهمية الحرب الفكرية في هذه الصدد، إذ الاحتلال أصبح ذهنيا اليوم، فخصص للموضوع كتبا ثلاثة: «مشكلة الثقافة»، سنة 1959، و«الصراع الفكري»، سنة 1960، و«مشكلة الأفكار»، في 1971، قبل رحيله بسنتين.
قناعته إنه لا حضارة بدون فكر إناسي متحرر من كل دغمائية، إلا أنه متجذر، يأخذ بالروحانيات لا بالمادية فقط التي طغت بصفة فاحشة على العالم. فلا خلاص اليوم إلا بالعودة إلى الماضي التليد في قيمه لا في خوره كما يفعل أهل التزمت الأخذين بالقشور، رامين باللب، وهو مقاصد الشريعة.
لهذا، كتب بن نبي كتابين هامين بيّنا رؤياه الكونية للنزعة الإسلامية الصحيحة، وذلك في مؤلفه الذي واكب انعقاد مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز «النزعة الأفر-آسيوية»، المنشور سنة 1956، و«فكرة كومنويلث إسلامي» الذي نشره سنة 1960.
همّ بن نبي كان التأسيس لحضارة عالمية روحانية مفتوحة على كل ما ميّز ويميّز الفكر البشري وفتوحاته، من نبل أخلاقٍ وعواطف وأحاسيس، لا رفض فيه للآخر المختلف ولا تسلط للبعض على البعض. لقد بيّن هذا بكل وضوحِ، بالنسبة للجزائر، بلده، في كتابيه «ميلاد مجتمع»، سنة انتصار الثورة، و«آفاق جزائرية»، بعد سنتين من ذلك.
بن نبي... لماذا نتجاهل فكره؟
آمل بن نبي بجزائر تؤمن بحقوق مواطنيها وتلتزم فيها السلطة التي أفرزتها الثورة بواجباتها؛ وقد عمل لذلك قدر استطاعته؛ إلا أنه جُوبه بالإقصاء من طرف أصحاب المصالح الضيقة.
لهذا، تجنب العمل في السياسة، رافضا النشاط في ميدان رفض أهله تلك المبادئ، فتجاهلوه وتجاهلوا فكره النيّر لما فيه من بذور تطلعٍ للحرية والانعتاق من ربقة استعمارٍ جديدٍ، هو اليوم داخليا، قبل أن يكون خارجيا، أي استعمار المصالح لأقلية من المحظوظين على حساب الأغلبية.
بالتالي، بقي فكر بن نبي صالحا للجزائر اليوم كما كان بالأمس، بل لكل بلاد الإسلام، والعالم أجمع، لما يختزنه من شحنةٍ ثوريةٍ لا شك أن زمنها يأتي وإن طال الأمد.
وقد كان بن نبي على علمٍ بمدى سبق فكره على زمانه، إذ ردّد قبل وفاته أنه يعود بعد موته وكرّر ذلك العديد من المرات، كقناعةٍ لا دحض لها، وتلك حال الحقائق. فهل هي اليوم العودة لفكر بن نبي، نابغة الجزائر؟
جرد لأعمال بن نبي
إضافة للمقالات التي نشرها على الصحافة المكتوبة، نشر بن نبي، أو نشر له تلاميذه بعد موته، الكتب التالية:
1947: الظاهرة القرآنية
1948: لبّيك (رواية)
1949: شروط النهضة
1954: وجهة العام الإسلامي
1956: النزعة الأفر-آسيوية
1957: النجدة للجزائر
1959: مشكلة الثقافة
1960: الصراع الفكري - فكرة كومنويلث إسلامي - خطاب حول البناء الجديد (مجموعة محاضرات)
1961: تأملات في العالم العربي (مجموعة محاضرات)
1961: في مهب المعركة (مجموعة مقالات)
1962: ميلاد مجتمع
1964: آفاق جزائرية (مجموعة محاضرات)
1965: مذكرات شاهد على القرن : الطفل
1967: الإسلام والديمقراطية
1968: إنتاج المستشرقين
1970: مذكرات شاهد على القرن: الطالب - بين الرشاد والتيه (مجموعة مقالات)
1971: مشكلة الأفكار
1972: المسلم في عالم الاقتصاد
1989: من أجل تغيير الجزائر (مجموعة مقالات)
2003: القابلية للاستعمار (مجموعة مقالات)
2004: النزعة العالمية (مجموعة مقالات)
وهذه بعض المراجع المنشورة مع تفاصيل النشر:
أ - مراجع بالعربية
فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، دمشق، دار الفكر. 1981.
مشكلة الثقافة، دمشق، دار الفكر، 1984.
مذكرات شاهد للقرن: الطالب، دمشق، دار الفكر، 1984.
شروط النهضة، دمشق، دار الفكر، 1986.
ميلاد مجتمع. شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، الجزائر، 1986.
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1988.
المسلم في عالم الاقتصاد، دمشق، دار الفكر، 2000.
ب - مراجع بالفرنسية
Les conditions de la renaissance, Alger, ANEP, 2005.
Vocation de l’Islam, préf. Nour-Eddine Boukrouh, éd. Albouraq, 2006.
Problème des idées dans le monde musulman, préf. Nour-Eddine Boukrouh, Paris, éd. Albouraq, 2006.
Mémoires d’un témoin du siècle : l’enfant, l’étudiant, l’écrivain. Les carnets, préf. Nour-Eddine Boukrouh, Alger, éd. Samar, 2007.
Le phénomène Coranique. Essai d’une théorie sur le Coran, Alger, éd. El Borhane, 2008.
Naissance d’une société. Le réseau des relations sociales, Alger, éd. Samar, 2008.
نشرت على موقع نفحة تحت عنوان:
مالك بن نبي.. ترياق ضدّ الإسلاموية