الطاهر الحداد... ضحية «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»
من الكتب ما يبني صرحا من المجد لأصحابها؛ ومنها ما يحفر لهم لحدا... كذلك كان الحال بالنسبة لكتاب الطاهر الحداد في تحرير المرأة من ربقة التخلف الذهني، إذ عجّل بموت الأديب التونسي وهو في ريعان الشباب، خمس سنوات فقط بعد نشره، سنة 1930 بتونس.
ولعل مصير الحداد كان يكون مختلفا لو عرف كيف يبلّغ أفكاره النيّره لأهل عصره، دون التنكّر لها، وذلك بمخاطبتهم بلغة لا تستفزّهم!
الطاهر الحداد أصيل الجنوب التونسي، من قرية تقع قربة حامة قابس، وهي من أرض أحرار البلاد، أصحاب الشهامة والنخوة. ولد سنة 1901 بالعاصمة، حيث نشأ، وحصل على شهادة الجامع الزيتوني سنة 1920. ثم دخل مدرسة الحقوق وبرز فيها؛ إلا أنه مُنع من نيل الشهادة لأجل أفكاره التحرّرية ونشاطه السياسي.
رجل شهم غيور على وطنه :
عُرف الحداد، منذ صغر سنه، بالنشاط الحثيث لأجل حقوق مواطنيه؛ فكان يكتب المقالات مناضلا عن الفكرة النقابية مثلا، وعن حقوق العملة التونسيين؛ أو للتصدّي لسياسة الحماية الفرنسية الساعية لمسخ الهوية التونسية، كحملة التجنيس لسنة 1932.
وطبعا، عُرف الحداد خاصة بمطالبته الجريئة لإعطاء المرأة التونسية جميع الحقوق التي للرجل، وهو مناط كتابه الشهير «إمرأتنا في الشرعية والمجتمع» المنشور بالعاصمة التونسية سنة 1930. والكتاب يُعدّ من أقدم وأهم ما كُتب في قضية تحرير المرأة من ربقة التخلف ومساواتها بالرجل في كامل الحقوق دون ميز أو حيف.
وقد سبق هذا المؤلف كتاب آخر هو «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية»؛ إلا أن الكتاب الثاني كان له الوقع الكبير على حياة الحداد ومصيره، لأنه أثار حال صدوره حملة شنيعة ضده. فهي لم تقتصر على التنديد بالكتاب وما يدعو إليه، بل تجاوزته إلى النيل من حقوق صاحبه، الذي حُرم تبعا لذلك من جميع شهائده العلمية، إضافة إلى تعرّضه إلى هجمات لاأخلاقية من اتهامات كاذبة وإهانات مقذعة وشتائم مزرية.
كان من جرّاء كل هذا العداء أن اضطُر الشاب إلى الانزواء على نفسه، مما تسبّب له في صدمة نفسية تبعها مرض قلبي أدّى إلى وفاته سنة 1935 ولمّا يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
و رغم قصر عمره، كان الرجل شديد النشاط، عالي الهمة، كبير العقل، قوي الشخصية، ملتهب العاطفة، متحمسا للقضايا الوطنية، مدافعا عنها في حماسة جياشة مع تواضع ملفت للنظر. ولا شك أن ذلك هو الذي حمله على التعرّض للموضوع الشائك بخصوص وضعية المرأة التعيسة في عصره.
لنقرأ مثلا ما يقوله في خاتمة مقدّمة الكتاب: «وما كان انهيار صرحنا إلا من أوهام اعتقدناها، وعادات مهلكة وفظيعة حكّمناها في رقابنا، وهذا ما حدا بي أن أضع كتابي هذا عن المرأة في الشريعة والمجتمع لنرى أيهما الهادي وأيهما الضال المضل؛ وعسى أن أكون بهذا قد أدّيت واجبا في عنقي أراه دينا عليّ لجنس أنا أحد أفراده، وأمة أنا واحد من أبنائها.»
تقديم الحداد لكتابه قضى عليه:
إلا أن ما يمكن ملاحظته اليوم هو إهدار الحداد على نفسه فرصة النجاح الباهر في مهمة النهوض بوضع المرأة المسلمة كما ابتغاه إذ لم ينتهج السبيل الأفضل لتبليغ رسالته لأهل زمانه وإقناعهم بصحة وجهة نظرهم من جميع الزواياو خاصة الدينية منها.
فكلامه، كما نراه بدءا بالمقدمة، كان مفعما بالتقديس غير المباشر لما وصل إليه الغرب والتشنيع على انحطاط حضارة الإسلام؛ فكان هذا من الأسباب الرئيسة الذي أثارت حفيظة المتزمتين ضده وأقات عله الدينا دون أن تقعدها. فالغرب كان عند العامة هو الاحتلال الفرنسي؛ لذ، عُد كل أخذ منه بمثابة المهادنة معه ضد الوطن!
إننا نتبيّن جليا ذلك من خلال تقديم الكتاب؛ ونحن نعلم قيمة الفاتحة للحكم على المحتوى. فلو انتهج الحداد مسلكا آخر، فيه التقليل من الإعجاب بالغرب للتذكير بما وصلته إليه حضارة الإسلام وضرورة إحيائها، لكان مصير الكتاب ومصير الحداد نفسه مختلفا؛ إذ ليست الأهمية في صحة ما نقوله، بل هي في كيفية قوله.
هذا ما غاب عن الشاب الحداد، فقضى على كتابه ونفسه بأن قدّم بنفسه السلاح لأعدائه لاغتياله. وهذا ما يجب الانتباه إليه اليوم من طرف كل من يسعى لخدمة مباديء الإناسة؛ فالمهم كيفية الكلام !
نبذة من التقديم الخاطيء للكتاب :
قدّم الطاهر الحداد كما يلي هذا الكتابه الذي فتك به في ريعان الشباب لأجل جهل الشاب الحداد لتقنيات الخطاب الموجه لأهل التزمت:
«المرأة هي أم الإنسان، تحمله في بطنها وبين أحضانها وهو لا بعي غير طابعها الذي يبرز في حياته من يعدُ، وترضعه لِبانها، تغذيه من دمها وقلبها، وهي الزوج الأليف تشبع جوع رفيقها، وتذهب وحشة انفراده، وتبذل من صحتها وراحة بدنها وقلبها لتحقيق حاجته وتذليل العقبات أمامه، وتغمره بعواطفها فتخفف عليه وقع المصائب والأحزان، وتجدد فيه نشاط الحياة، وهي نصف الانسان وشطر الأمة نوعا وعددا، وقوة في الانتاج من عامة وجوهه. فإذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط، وإذا كنا نحبّها ونحترمها، ونسعى لتكميل ذاتها، فليس ذلك إلا صورة من حبّنا واحترامنا لأنفسنا، وسعينا في تكميل ذاتنا.
«غير أننا قد اعتدنا - في نظرنا للمرأة - أن نراها منفصلة عن الرجل، لا شأن لها في تكييف نفسه وحياته، وأحرى أن لا يكون لها شيء من ذلك في نهوضه الشعبي أو سقوطه؛ فكنا بذلك نتجرّع مرارة الخيبة في حياتنا من كل وجوهها دون أن ندرك مصادر هذه الخيبة النامية فينا فنعمل لزوالها.
«الناس أمام المرأة اليوم فريقان : أنصار لها، ومعارضون، ولكنهم في الغرب غيرهم في الشرق، والفرق بينهم بعيد جدا كالفرق بين إمرأتهم وإمرأتنا؛ فهم - في أوربا - متفقون على تعليم المرأة وتربيتها، وعاملون في ذلك جميعا لتقوم بعملها كاملا في المنزل، وتربية الأبناء مع تمكينها من الحرية المدنية لاستثمار مواهبها في الأعمال الأدبية والمادية العائدة بالخير على منزلها أو على الثقافة العامة؛ ولتأخذ حظها أيضا في الانتفاع بمباهج الحياة،؛ وقد نالت من ذلك ونال منها المجتمع الأوربي أوفر نصيب. ثم هم يختلفون - بعد ذلك - في تقدّمها مع الرجل إلى الانتاج المادي، وسيادة الدولة، وتحمّل أعبائها بالمساواة معه حتى لا يمتاز عليها في شيء. وهذا ما تيسّر له اليوم في تيّار قوي.»