يوميات رمضانية
9
القرار التونسي وأوامر الغرب
نسمع أحيانا مقولات من طرف المتزمتين دينيا وسياسيا من أهل الإرهاب الذهني في أن تونس تأتمر بأوامر غربية وأن سلطها تطبق خارطة طريق أمريكية. وهي تجد الطريق إلى رؤوس البعض من ساستنا، حتى من لا نشك في ذكائهم، من باب التعاطي السياسوي أو المزايدة الأيديولوجية.
من ذلك ما سجلناه أثناء جلسة اللقاء التشاوري بوم الخميس الماضي في قرطاج بين رئيس الجمهورية وقيادات أحزاب التحالف الحكومي إضافة لرئيسة إتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية و للأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل. ففي نطاق هذه المشاورات عقب المبادرة الرئاسية لتكوين حكومة وحدة وطنية، وجدنا عند الأمين العام للإتحاد رجع صدى لهذه النظرية.
وإذ نسوق هذا المثل فلما فيه من رمزية، إذ يأتي من المنظمة الشغيلة التي نعلم مدى قربها الحالي والتاريخي من الحليف الأمريكي. فمما ورد من أنباء عن نلك الجلسة ما كتبته صحيفة المغرب في عددها الصادر يوم الجمعة العاشر من هذا الشهر، إذ قالت أن «الاتحاد العام التونسي للشغل اعتبر أن الإصلاحات المراد تنفيذها هي إصلاحات مملاة من الخارج، وهو ما دفع برئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إلى المقاطعة والتوجه للعباسي بالقول أن الإصلاحات لم تكن مملاة من الخارج وإنما هي ما تقتضيه وضعية البلاد»،
نعم، صدق الرئيس في كلامه؛ إذ وضعية البلاد تقتضي إصلاحات جذرية مؤلمة لا مناص منها؛ ولئن سعى إليها الغرب في نطاق مصالحه - ومن ليست له مصالح في السياسة؟ - فلا يمكن الدفع بهذا لرفض ما فيه أيضا مصلحة تونس الآنية وعلى المدى الطويل.
بقي أن مصلحة تونس طبعا لا تتناغم ضرورة مع ما ينويه الغرب وما يعرضه على تونس؛ وهنا يكمن الحس السياسي والبراعة في المناورة عند المشاورات والمفاوضات بين تونس والطرف الغرب كما نبيّنه في ملاحظاتنا. وهي من بحوث شخصية علمية للواقع التونسي من زاوية علم الاجتماع العملي السياسي والسيكولوجي في هذه الحقبة الزمنية التي تجعلنا بين ظفرين، الأول الذي يغلق حقبة زمنية انتهت، أي النظام العالمي القديم، والثاني الفاتح لنظام جديد لو يُولد بعد، علينا رسم ملامحه. ولنا عودة لاحقا، إن شاء الله، للحديث عن ذلك.
التأثير الخارجي والتأثير المعاكس
ليس بإمكان أحد التشكيك في حقيقة وقيمة التأثير الخارجي على القرار السياسي في بلدنا وبلاد الجنوب عامة، إلا من تعاطى اللغة الكاذبة من باب الخدعة السياسية والمناورة المعهودة في المفهوم السياسي القديم رغم أن الدهر أكل عليه وشرب.
إن حقيقة التأثير الخارجي على القرار التونسي كعين الشمس، لا مجال لإخفائها بالغربال، كما يقول المثل الشعبي. إنما ما فيه اختلاف وما هو حري للأخذ به على السياسي الحقيقي اليوم، وهو السياسي الفهيم الذي يتعاطى شغله بصدق نية ونقاء سريرة، فهو الإجابة على السؤال الآتي : هل هذا التأثير لا محيد عنه؟ وهل هناك إمكانية الحد منه أو الاستفادة عبره بتوجيهه نحو مصالحنا في نفس الوقت؟ ولعمري، هذا من عين الحكمة!
إن الواقعية السياسية تفرض الاعتراف بحتمية التأثير الخارجي. ولكن قبل الحديث فيه، لنذكّر أولا أننا اليوم أكثر من أي وقت مضى في عصر تلاحم المصير وتلاقح الأفكار والمصالح. وليس ما نراه من اختلاف وتضاد، يذهب إلى حد الحروب، إلا من باب رفض مثل هذا الترابط بين الدول والشعوب.
فمصيرنا مشترك أيا كان اختلافنا، بما أننا نعيش على بسيطة مستقبلها يهم كل واحد من خلقها، لأنها غدت كالعمارة الواحدة. فهل بإمكان المتساكنين تجاهل ما يحدث في دهليز البناية أو في سقيفتها أو عليتها، خاصة عندما يحدث ما يهدد أمن العمارة كحريق أو فيضان مائي؟
ولا غرو أيضا أن مصير الجماعة دوما بيد كبرائها، تماما كما هو الحال داخل العائلة؛ إذ لا مجال لترك الصغير يقرر مصير العائلة، بله الإضرار بها. فالحال كذلك، أحببنا أم كرهنا، في المجتمع العالمي، حيث لا مجال لتجاهل مصالح دولها العظمي.
بلدنا ليس اليوم من هذه الدول، وقد كان الحال بالأمس عكس ذلك، إذ كنا جزءا لا يتجزأ من إمبراطوية إسلامية عظمى فرضت مصالحها على العالم، تماما كما تفعل الدول الكبرى اليوم. بل لنقل كما تحاول هذه الدول فعله اليوم، لأن الظروف تغيرت فأصبح الأمر أكثر صعوبة وتعقيدا. إلا أن المبدأ يبقى نفسه، أي حتمية القرار للأعظم، حتى وإن لم يكن على حق، إذ الحق رهينة العقيدة لا القوة.
وطبعا، للحق أن يصبح قوة عندما يمتاز بالحكمة. ولهذا أن يحدث أولا بتزامن القوة والحكمة، وكان لنا ذلك في فترة ولّت وانقضت داخل الحضارة الإسلامية في أوجها. ويكون ذلك ثانيا، وهو ما أدعو إليه، بالحكمة في استغلال منطق القوي للتأثير المعاكس عليه. أما إذا سلّمنا بحتمية التأثير الخارجي، فهذا لا يعني تجاهل ضرورة التأثير المعاكس؛ كيف يكون ذلك وميزان القوى عير متعادل؟
لنأخذ مثالا يسهل به فهم الموضوع. إن الإنسان المجرّب، ممن يستخدم عقله، عندما يقبض ٍقط على يده بمخالبه أو ينشب كلب أنيابه فيها، لا يسارع بإخراجها، فذلك مما يضره ولا فائدة ترجى منه. الحكمة هي في العكس تماما، أي إرخاء اليد وتركها بين أنياب أو مخالب الحيوان؛ تلك هي الحيلة الفضلى التي تسمح له بالحفاظ على يده بأخف الأضرار؛ لأن الحيوان عندما تجابهه شدة يتشدد، بينما يرتخي عند التراخي.
مثل هذا التصرف الحكيم مما نتعلمه في تجليات الحياة حولنا، وهي من حكمة الله في خلقه، إذ نرى النملة و الصرصور يقفان ولا يتحركان عندما يجدان أنفسهما في خطر داهم، خلافا لما يفعله الإنسان في نفس الحالة. ذلك لأن نظر الحيوان بصفة عامة لا يميّز الألوان؛ لذا، عندما يلتزم الآخر بالسكون، يختفي عن الأنظار؛ فالحركة هي التي تظهره لعدوه وتجعله مرمى سهامه.
إن الأمر نفسه في السياسة، إذ الحركة فيها كل شيء؛ إلا أن هناك حركة صائبة وحركة خائبة. فإن كانت الأولى من الدهاء السياسي وفيها كل المصلحة عندما يكون هذا الدهاء للصالح العام لا لأغراض دنيئة، فالثانية من التهور وابتغاء الباطل بدعوى الحق. بل هي مما يفقدنا حقنا لا محالة.
ذلك لأن الحصول على الحق اليوم يقتضي احترام بعض القواعد الشكلية وإلا سقط، كالقيام مثلا بالدعوى أمام المحكمة في الآجال، أو عدم اللجوء إلى التصرفات الهوجاء، وإن كانت مفهومة ومشروعة من الزاوية العاطفية. ولنا في القضية الفلسطينة أكبر وأعظم شاهد على صدق ما أقول.
السياسة البهيمة والسياسة الفهيمة
كيف نجابه اليوم التأثير الخارجي على القرار السياسي في تونس ونستفيد منه؟ بادى ذي بدء، بالتعرف والقبول بأنه لا فائدة في نكرانه أو التنديد به، كما يفعل بعض ممن يدعي تعاطي السياسة وليس له منها شيئا، بما أن السياسة كياسة أو لا تكون.
ولكنها، في نفس الوقت، ليست القبول بالأمر الواقع ورفض الحلول المنطقية بدعوى أنها خيالية، كما يفعل البعض ممن ينبطح أمام القوي - وينسى أن القوة الحقيقة ليست مادية بل روحية وخلقية - فيقبل الأمر الواقع بهناته لحاجة في نفس يعقوب.
ولا ضرورة لتبيان تهافت مثل هذا التصرف الأخرق الذي يدّعي الواقعية، لأن السياسة الحقة هي أولا وقبل كل شيء العمل على تغيير الواقع؛ ويبدأ ذلك برفض سيئاته وكل ما يصاحبها في كل مقتضياته، حتى وإن بدا ذلك من باب الحلم أو من الوهم.
فلا سياسة أصلا بدون حلم ووهم، وإلا فهي ذلك التصرف البهيمي الذي ليس فيه من الإنسانية أي شيء؛ بما أن ما يميز الإنسان عن الحيوان عقله وقناعته بقدرته على تغيير واقعه نحو الأفضل. والأفضل دوما أمامنا كالأفق، لا نصله طبعا، بل نتوجه نحوه في سير متواصل مستدام. هذا قدر الإنسان ومصيره المحتوم.
إن السياسة البهيمة اليوم هي في قبول الواقع في العلاقات الدولية على أنه من المستحيل تغييره، لأن متخيلنا لا يزال تحت احتلال الغرب في رؤياه البالية للأمور. فنحن، وان تحررنا نظريا، بقينا تحت التصور الغربي لواقعه كما يحلو له؛ وهي الحال التي تقتضي بقاء الدول المستعمرة سابقا تحت هيمنته الفكرية في تصوره الشكلي للأمور. والشكل يخدع الحواس لا محالة.
فبديهي أن القول بتعادل الدول في السيادة يبقي نظريا ولا مدلول له إذا كان مضمونه لا يتوازن مع ما يفرضه المنطق والعقل. لنأخذ لذلك مثال حرية التنقل وهي من حقوق الإنسان ومما لا محيد عنه في عالمنا : فهل بالإمكان إقامة المتاريس وتحصين الشقق بين طوابق العمارة الكونية؟
رغم الإجابة السلبية البديهية، فهذا ما يقول به الغرب وما يقبل به ساستنا المنبطحين أمام الأمر الواقع؛ إذ، بدعوى الواقعية، يعملون على خدمة مصالح تلك الدول الداخلية. وتلك سياسة بهيمة ليس فيها مثقال ذرة من العقل والحكمة. فهذه الدول، أساسا لأسباب ذات صبغة داخلية بحتة ومصالح أنانية للعديد من ساستها وأحزابهم، تتجاهل بسهولة قيمها؛ بل هي لا تتردد في شراء ذمم من لا يخشى بيعها لمصالحه الآنية.
هذا مثال، وأنا أكتفي به لما فيه من رمزية - ولشدة دعوتي إليه - للتدليل على ما يمكن لنا فعله اليوم للرد على التأثير الخارجي بسلاح الدول الخارجية نفسها؛ فبذلك نعكس مصالحها لأجل صالح شعبنا. فليس بالإمكان اليوم للغرب، وبخاصة للإتحاد الأوربي الذي هو أقرب جيراننا، أن يجابه بالمنطق دعوة تصدر منا، إن تجرأنا عليها، فطالبنا بما يلي :
* أولا، حرية تنقل موطنينا في فضاء ديمقراطي متوسطي، لأن الشعب التونسي برهن على نضجه السياسي وعلى استحقاقه لمثل هذا المكسب الذي يعدّ من أهم حقوق الإنسان ومن علامات الديمقراطية. ولا مجال لرفض مثل هذا الطلب باسم الأمن، لأنه بالإمكان تطبيقه، على الأقل في البداية، بمجرد تغيير شكل التأشيرة اليوم إلى تأشيرة تنقل تسلم لكل من يطلبها من التونسيين بدون تمييز. فهي من ناحية تأشيرة، أي تمكّن من تتبع خطى المتنقل، ولكنها في الآن نفسه تضمن حريته في تنقله بكل طلاقة.
* ثانيا، التخلص من عقدتنا وخورنا في اعتقاد الوحدة العربية ممكنة اليوم، سواء بين دول المغرب العربي أو بقية الدول العربية، إذ هي تقتضي بلا أدنى شك انتقالنا الناجح إلى الديمقراطية؛ فلا ديمقراطية تبنى بين أنظمة لا تؤمن بها. بل المنطق يقتضي أن تتأسس الديمقراطية بترابط أواصر الدولة السائرة في هذا الإتجاه مع الدول التي لها فيه باع؛ فهل يعقل أن نخيط الثوب الجديد بما خلق وبلى من الأسمال؟ ثم إن تونس أساسا قلب المتوسط، وأفقها وأفق شعبها يبقى شمال البحر المتوسط قبل أن يكون المساحة المغاربية أو الإفريقة أو المشرقية. فتونس مغرب الشرق، واتجاهها الطبيعي والحتمي أن يميل نحو الغرب بأن يكون مشرقه، يأتيه بروحانية دينه الذي هو من هويته، لا نحو المشرق وهو أبعد ما يكون عنه، خاصة في تزمته السياسي والديني. هذه الحقيقة أحببناها أم كرهناه. وعسى أن نكره الشيء وفيه الخير، كل الخير، لنا!
حتما، ما سبق من البديهيات رغم طبعه المشاكس للمعروف المبتذل من سياستنا، هو مما يفرضه الواقع الجديد. فزمن ما بعد الحداثة، وهو زمننا، يقتضي إعادة اكتشاف ما لنا من ثراء في الروحانيات حتى لا تكون ديمقراطية تونسنا الجديدة مجرد نظام بلي وتقادم، ليس فيه إلا الشكليات المضحكة والمخاتلات المبكية التي هي صبوحنا وغبوقنا اليوم.
إنه بإمكاننا التأسيس لمابعد الديمقراطية، لنعيد حقا للشعب كامل سيادته؛ يتعاطاها خارجيا بتنقل حر يتوازى مع طبعه المتفتح وعقليته التجارية الأصلية، وداخليا بالعمل السياسي النزيه بمراكز جهوية يمكن فيها أخذ القرار السياسي المستقل؛ فيحكم الشعب في الجهات نفسه، لأن أهل مكة أدرى بشعابها. هذا هو المرور من الديمقراطية التي ولى زمانها إلى الديملوكية، أي سلطة المجتع المدني. ولعلنا نعود للحديث في الغرض.
نموذج العلاقات مع أوروبا
حتى نوضّح أكثر ما سبق انطلاقا من واقعنا السياسي المعاش، لنأخذ مثال المفاوضات الحالية بين تونس والاتحاد الأوروبي لعقد اتفاقية للتبادل الحر. هل من الممكن لتونس رفض هذا الإتفاقية التي يرى فيها المحللون المساويء الثابتة للطرف التونسي؟
إنه لا يكفي التحليل الصائب والتشخيص الموضوعي للوضع الحالي في علاقات تونس بالاتحاد الأوربي، وهو بحق هذا الوضع المزري الذي لم يعد صالحا ولا مثقال ذرة. فلا فائدة في التنديد بحال أيا كانت صحة التنديد ومشروعيته إذا لم يأخذ بعين الاعتبار خاصية استراتيجية هامة من هذه العلاقة تجعل من عقد الاتفاقية المنتقدة، رغم نواقصها ومخاطرها، الشيء الذي لا محيد عنه لبلادنا، شاءت أو أبت. فهل لتونس القدرة السياسية للاستغناء عما تجده، ولو كان ضئيلا، عند الحليف الأوروبي؟
إلا أن الفرق شاسع بين القبول بالاتفاقية كما هي معروضة، أي مجرد اتفاقية تجارية، و إضافة حرية المرور للتونسيين باسم المنطق والأخلاق حتى يقترن التبادل الحر للبضاعات مع التنقل الحر للعباد. مع الملاحظة أن مثل هذا التوجه يتناغم مع عديد المواقف للملاحظين والباحثين الأوروبيين، ومن بينهم الديبلوماسيين والسياسيين غير الرسميين، الذين يذهبون إلى حد القول بضرورة إدماج تونس في الإتحاد الأوروبي.
لم لا يطاالب بهذا الطرف التونسي؟ إن السياسة الفهيمة والديبلوماسية الصائبة هي في مقاومة الخصم بسلاحه وحمله على ضرورة الاعتراف بما يفرضه منطقه. فما هو منطق أوربا في قضية الحال ؟ غاية الاتحاد الأوروبي، والغرب عامة، هي ضرورة فتح البلاد التونسية على المنظومة الأوروبية ودمجها داخل الرأسمال العالمي في نطاق انتقالها الديمقراطي الذي لا يراه الغرب إلا من منظور الانخراط في النظام الاقتصادي العالمي الحالي.
فهل، واقعيا، من محيص عن ذلك لبلدنا؟ وهل يمكن لأوروبا نفي التداعيات المنطقية كما نبينها لهذه الحقيقة؟ إن من حق وواجب الديبلومياسة التونسية الاعتماد على هذه الخلفية للمطالبة كخطوة أولى، بفتح الاتفاقية المزمع عقدها أمام حرية تنقل البشر كما هي مفتوحة وستفتح أكثر أمام تبادل البضاعات. ثم تأتي الخطوة التالية المتممة، أي انضمام البلاد هيكليا للاتحاد.
مع العلم أن نظام حرية التنقل الذي يمكن لتونس بكل مشروعية المطالبة به لا يغيّر أي شيء في النظام المعمول به اليوم، إذ هو لا يدعو بتاتا لإلغاء التأشيرة الحالية، بل يطالب فقط بتغيير طبيعتها من تأشيرة سياحية إلى تأشيرة مرور تُسلّم بصفة آلية لكل التونسيين مجّانا ولمدة سنة على الأقل قابلة للتجديد مع المحافظة على رفع البصمات.
هذا النوع من التأشيرة معروف ومعمول به، إلا أنه يتم بصفة محدودة، مما يخالف ضرورة التعويض اللازم لرفع البصمات الذي يُعتبر انتهاكا للسيادة التونسية وللقانون الدولي ويتطلب للمحافظة عليه ما يتناسب مع أهمية مثل هذا التنازل عن سيادته من جانب الطرف التونسي.
وليس للاتحاد الأوربي رفض المطلب التونسي بعد قبوله رفع التأشيرة في علاقاته مع تركيا؛ فهل تركيا أقرب من تونس للإتحاد الأوربي ؟ وهل تكيل بمكيالين مع التبجح بخصوصية النموذج التونسي ودعم تنقله الديمقراطي الذي لا يطال كعبه المثال التركي مهما علا شأنه؟
نعم، سيقول الأوروبيون أن تركيا مرشّحة للدخول للاتحاد، إلا أن هذا لن يكون مقنعا بتاتا لأن الجغرافية اليوم لم تعد مرتهنة بالأرض، ولا مفهوم لها إلا من خلال اعتبارات أخرى جيوستراتيجية، منها التكامل التام بين المصالح وتشابكها؛ ولا شك أن هذا أقوى بين تونس وأوروبا مما نجد بين تركيا وأوروبا.
ثم تونس اليوم نجحت في قفزة هامة لأجل ترسيخ الديمقراطية لا بد أن تكتمل في نوعيتها، ولا يمكن ذلك إلا بتمام التناغم بين نظامها الاقتصادي والاجتماعي مع المنظومة الأوروبية، لأن جذور العوائق لنجاح هذا الانتقال هي بالأساس خارجية، ولأوروبا ومصالحها بتونس المسؤولية فيها بدون أدنى شك.
لهذا، إضافة لحرية التنقل للمواطنين التونسيين، تماما كما سيكون الحال قريبا بالنسبة للمواطنين الأتراك، لا بد من الاعلان عن التوجه الاستراتيجي نحو دخول تونس رسميا في الاتحاد الأوربي الذي تنتمي إليه بعد بصفة غير رسمية نظرا لما هناك من عضوية بين مصالح الطرفين.
هذا ما يفرضه العقل ويحتّمه المنطق، علاوة على مصالح لا تونس وحدها فحسب، بل أوروبا نفسها التي لا يمكن لها أن تواصل سياستها الحالية في التعامل مع موضوع الهجرة غير القانونية بصفة أثبتت خورها، بل أصبحت مطية للإجرام.
فالسياسة الأوروبية الحالية لا مصلحة فيها، إذ هي تشجّع الشباب الذي يُمنع من التنقل بحرية أو المقيم على أراضيها وله جنسيتها -انطلاقا من مبدأ التعاطف مع أبناء بجدته -، على العمل على مقاومة مثل هذا الازدرهاء لحقوق من حقوقه المشروعة، أي حرية التنقل. ولا شك أن الانتقال بالتأشيرة الحالية إلى تأشيرة المرور كما وصفناها ليس فيه أي مزيّة على البلاد التونسية وقد أثبت مواطنوها عن نضجهم، ولهم أن يستحقوا تثمين مثل هذا النضج.
ولنختم بالملاحظة أن كل الدراسات الجدية في ميدان التنقل البشري تجمع اليوم على أن غلق الحدود ونظام التأشيرة الحالي هما السبب الرئيس في الهجرة السرية وفي دعم الإرهاب. كما تبيّن أن البلاد التونسية لن تخرج من أزمتها إلا بدعم مالي ضخم كالذي يمكنّه الانضمام الهيكلي، إذ المساعدات الحالية لم تعد تكفي بتاتا.
إن تنقية المناخ الإقتصادي في تونس لا يمكن أن يتم إلا بدعم صادق ونزيه، كامل ومعمق، من طرف منظومة متكاملة كمنظومة الاتحاد الأوربي، على ألا تكتفي هذه المنظومة برعاية مصالحها فتنسى مصالح تونس، لأن هذه المصالح كلها متشابكة بما أن تبعية تونس لأوروبا بنيوية.
ذلك لأن تواصل الأزمة ببلادنا ليس من مصلحة الغرب بتاتا، لأنه يجعل تونس لقمة سائغة لأهل الإرهاب المادي والفكري؛ فإن هي فشلت - لا قدر الله - في التصدي لهذا الخطر الداهم، لن تبقى أية مصلحة تذكر للإتحاد الأوروبي بها ولا بجنوب البحر المتوسط.
نشرت على موقع أنباء تونس