كيف نعلم القرآن للناشئة ؟
عرفنا في تاريخ الإسلام فترة مجيدة حرص فيها المسلمون على حفظ القرآن لحفظ دينهم، فكان ذلك من أفضل ما فعلوه، إذ مكّن من خلق علوم جديدة، منها علم القرآن وعلم الحديث.
لهذا كثر ما يُسمى بالحفّاظ والمحدّثون؛ ولا شك أن ذلك كان للثقافة الإسلامية، مع تداعياته التي أهمّ تجلياتها الفقه الإسلامي، بمثابة علم المنطق والفلسفة عند الإغريق.
إلا أن السؤال الذي لا بد لما من طرحه اليوم هو الآتي : هل نواصل في زمن الافتراضية، بما فيها العلوم والمقدسات، ما عمل به فأتقنه سلفنا، أم نحرص بدورنا على استنباط ما من شأنه أن يواصل مجهودهم الحثيث في الذود عن حمى الدين؟
ضرورة تجدد الإسلام المستدام :
إن الإجابة واضحة وضوح الشمس في ربيعة النهار وقد أصبح الدين الإسلامي تجارة عند العديد من مسلمي الرسم؛ بل هو في أيدي البعض منهم والعديد من أعدائه الألدّاء مجرّد شعارات جوفاء لتمرير حنقهم على دين روحاني، إناسي التعاليم، تميّز عن سائر الأديان بكونيته وعلميته، مما جعله يدخل القلوب والألباب قبل العقول ويستقر بها أبد الآبدين؟
الحقيقة وواجب التصريح بها يقتضيان القول أن ديننا يعلّمنا ضرورة تجدّده المستدام، ويكون ذلك على الأقل على رأس كل قرن؛ فهل في هذا قول آخر لمن حسن إسلامه؟
وها نحن في مستهل مائة سنة جديدة، فهلا نعمل بما يندب إليه ديننا الحنيف، بل ما يفرضه علينا من جهاد ذهني نـظرا لما آل إليه حال ديننا الحنيف من دعدشة ؟
هذا يقتضي لا محالة التسليم بالضرورة القصوى اليوم لتثوير القرآن من جديد وفهم معانيه حسب مقتضيات زمننا الراهن أخذا بمقاصد الشريعة، أي لا بالنص وحده، بل بروح النص ولبه.
فهل كلام الله مجرّد نص وقد جاء متناغما مع عصره، أم هو أولا وبالأساس في روحه التي نتبّينها من مقاصده؟
أليست الروح كل شيء ؟ أليست هي أيضا كلام الله، بل كل كلام الله؛ إذ لا يتجلّى في حرف القرآن إلا النزر القليل منها ! فهيهات أن يحيط أي عقل بشري، مهما علا شأنه وارتفع قدره، بحكمة الله التي لا حد لها !
ثم أليس العالم عالما ما دام يطلب العلم، وهو الجاهل ما إن ادّعى الأخذ بناصية العلم، بما أن قدر ابن آدم النقصان ما بل بحر صوفة؟
كيف إذن ندّعي فهم القرآن فهما نهائيا فنخلق من تأويلنا له حسب ظروف عصر وصروفه شريعة ليست هي إلا من استنباط البشر، نجعل منها قرآنا جديدا، ناسين الأصل؟
ألسنا نعمل بذلك عمل اليهود قبلنا فنصنع صنعيهم بالاعتماد على اجتهاد الفقهاء ونتناسى ضرورة العودة الدائمة إلى القرآن لتثويره، كما حث عليه الرسول الأكرم؟ أليس هذا من الواجب خاصة وأن الاجتهاد مع الخطأ مما يُجازى عليه في ديننا ترغيبا في الجهاد الوحيد اليوم أي المجاهدة بالفكر ولنزوات النفس ونزغاتها؟
كيف يكون تدريس القرآن :
لنا عودة في مقالة قادمة إلى مفهرم الشريعة اليوم وكيف يتوجب تحديثه. لنتكلم الآن عما يكون فهمنا لتعليم القرآن تعقيبا على البادرة التي ألهبت النقاش الحاد هذه الأيام بخصوص تدريس القرآن بالمعاهد أيام الصيف للناشئة.
أولا وقبل كل شيء، لا يكون ذلك إلا لمن أراده وابتغاه، إذ طلب العلم في الإسلام، الذي لا بد أن يبدأ من المهد ويتواصل إلى اللحد، لا يكون إلا عن رغبة حرة صادقة، مما يقتضي النية الصحيحة في تعلمه، فلا يُفرض فرضا بصفة أو بأخرى.
ثم، ثانيا، من المتحّم أن يكون ذلك حسب روح الإسلام وروح العصر أيضا، إذ ديننا لهو الدين الموافق لعصره لما فيه من أزلية التعاليم وكونيتها؛ أليس هو خاتم الأديان؟ ذلك يعني، لا محالة، أن الإسلام لا يُميّز بين البشر بعضهم عن بعض إلا بالتقوى؛ وليست التقوى إلا في الكسب المسالم واحترام الآخر المختلف، أيا كان اختلافه.
ولنقف هنا لحظة لتيبان روح ملتنا المتناغمة مع روح العصر وقد غفل عنها معظم الناس! قطعا، إنها لم تعد تتمثّل في حفظ القرآن وتحفيظه، إذ ولّى زمن طريقة الكتاتيب في عالمنا الافتراضي الذي لا يغيب فيه على طالبه أي شيء من العلوم. ولا شك أن هذه الحقيقة بديهية، خاصة وأن الإسلام أصبح هذا الدين المتمكّن من الألباب إلى حد لجوء أعدائه إلى استغلاله في مآربهم الدنيئة وتجنيد أهله المنافقين في ذلك.
إن الحفظ اليوم وتعليم القرآن حسب المعروف من مناهج الكتاتيب المتهافتة مما أكل عليه الدهر وشرب؛ فليس هو إلا ذلك الاجترار الذي لا نفع فيه، بل كل الضر؛ خاصة وأن لنا في كتب السلف ما ينفع ولا يضر أبدا.
فلا مناص اليوم في تعليم القرآن للناشئة من اعتماد التفاسير القيّمة التي لا مجال لتجاهلها لفهم القرآن، كتفسير الإمام الجليل الطبري، وهو من أجل التفاسير بل الأوحد الأقرب إلى فهم آي القرآن وتأويلها حسب الأصح. كما لا مناص من اعتماد االبعض مما صنف الأوائل في علوم القرآن كالمصنف القيّم للزركشي : البرهان في علوم القرآن.
بمثل هذه التصانيف وغيرها مما يتمّمها في علوم اللغة، إذ العلاقة متينة وطيدة بين القرآن واللغة العربية، ككتب الأصمعي والزمخشري مثلا، نضع حدا لمتاهاتنا الحالية في الكلام عن الإسلام.
فقد أصبح ديننا مطية لكل من ساءه امتيازه وما أمكن له من ابداع إلى حد النجاح الباهر في خلق حضارة عالمية؛ ولعله يجددها لا محالة إذا عرفنا كيفية الأخذ من جديد منه والاغتراف من منبعه الفياض.
على أن ذلك طبعا لا يكون بالمتاجرة بالإسلام كما يفعل العديد من أهله اليوم بتونس، عن حسن أو سوء النية، رغم الفرصة المتوفرة بببلدنا للإتيان بالجديد. فهذا من الممكن نظرا لما في الملة التونسية من طرافة وجدّة حمته وتحميه على الدوام من الجاهلية المتأسلمة بالشرق الذي غالى في تهوره وغيه فتهافت دينه إلى حد الدعدشة الحالية.
بل إن ما يمكن فعله من حسن الأخذ بالإسلام في تونس ليصلح أيضا لمن ديدنه التجارة من هؤلاء الباعة في الدين بين الساسة، إذ نعلم أنه لا تجارة نافقة رابحة إذا لم نعمل جاهدين حتى لا تبور بالتزام التجديد في طرق البيع والشراء مما تفرضه السوق وقوانينها.
ولنختم كلمة الحق هذه، التي يفرضها الدين لواجب التذكير، بالقول أن لها تتمة للحديث عما يفرضه هذا التمشي في تعليم القرآن من فهم متجدد للشريعة الإسلامية اليوم.
نشرت على موقع أنباء تونس