لا شك أن الحكمة، في حقيقة الأمر، ليست إلا التنبه لما في حياتنا اليومية، حتى بما فيها من رتابة وابتذال، من معاني عدة يكفي الإمعان فيها للخروج بحكمة الأوائل الذين ما امتازوا في غالب الأحيان إلا بحسن انتباههم لواقعم المعيش وقراءتهم الجيدة له.
من ذلك موضوع الجوع الذي لعله يبدو لأول وهلة تافها بينما فيه من المعاني ما لا يحصى ولا يعد إذا تجاوزنا الفهم المعتاد، أي هذا الإحساس بالرغبة في الأكل أو حتى حالة نقص الأكل التي تجعل من الجوع مجاعة.
فإن نحن مررنا إلى معنى المجاز الذي هو الحاجة الماسة للشيء، أي شيء، عندها تتوفر لنا إمكانية مقاربة فكرية نفسانية تزخر بالمعاني مما لعله لا يخطر على بال لخفائها رغم جلائها في معانيها؛ فهي تلك الإرهاصات بعيدة الغور لجوع معنوي، هذا الجوع الذي فيه الرغبة الجامحة للحياة أو لما يرمز إليها، سواء كان ذلك عن صحة أو خطأ؛ فإذ بنا فريسة جوع يأكلنا ليحيينا إلى تلك الحياة.
لننتبه هنا إلى أننا إن تفكرنا في هذا المعنى للجوع كمطية للحياة، فنحن لم نُعنى بمعنى تلك الحياة ومغزاها، إذ يمكن أن تكون في حقيقة الأمر مماتا، كمن يسارع لأكل أي شيء يعتقد فيه الحياة وليس هو إلا السم الزعاف؛ وطبعا، هذا يقتضي التمعن في معاني الحياة على حدة، وليس المجال لذلك.
تجليات قاعدية للجوع المادي :
لا شك أن الجوع صنو للحياة، إذ لا حياة بلا أكل، فلا أكل بلا جوع؛ المسألة كلها هي في حدة غريزة الحاجة للأكل ووطأتها على النفس؛ فلا يعيش ابن آدم إن لم يأكل، ولا يأكل إن لم يجع، أو هي تلك القاعدة.
وهناك من الحالات المرضية التي يفقد المرء فيها الإحساس بالجوع، فإذا به دون شاهية للأكل أو لا يكبح نفسه عن الأكل؛ ولعل الحالة الأولى تحمله على تجاهل ضرورة من ضروريات الحياة فمقتضياتها، إلى حد إجباره على أن يقتات ما يلزمه من ضروريات لا غنى له عنها، حتى إذ اقتضت الأمور إلى تغذيته قسرا بتقطير الأكل سائلا ببدنه.
الجوع إذن ضروري للأكل، فهو بمثابة الأكل لنا ولجسمنا ليحيا ويعيش؛ وهو على درجات من الحدة في جوع فسيولوجي يتولد في البدن عن حاجة قاعدية في الحرص على خزن ما من شأنه إكسابه الطاقة اللازمة للحياة. مع العلم أن هذه الطاقة لا تأتي بداهة وبصفة آلية مما بالبدن من مكونات الطاقة، بل هي مما يتغذاه الإنسان.
ذلك لأن الذكاء الفطري لما يُسمّي بالعقل الزواحفي في الإنسان يحمله على خزن المواد والموارد الغذائية لتعبئتها عند الحاجة القضوى لها لنشاطات الجسم، ويكون ذلك دوما قبل التعويل على ما به من موارد طاقية، ومنها الدهون خاصة. لهذا نرى الرياضي الذي يفرض على عضلاته الترييض اللازم يحمل بدنه قسرا على الحصول على الطاقة اللازمة له من البدن نفسه ومما يختزنه، لا مما يأتي له من الأكل.
إرهاصات خفيّة للجوع :
للجوع تجليات أخرى غير مادية، هي في تعقيداتها مما يميّز الإنسان عن الحيوان، رغم أنه منه. فللإنسان مثلا القدرة على التحكم في غريزة الجوع بأن يغير من وتيرتها، مثله في ذلك مثل الرياضي السالف الذكر الذي يفرض على بدنه ما ليس في عاداته من فطرية الخزن وعدم حرق ما بالجسد إلا قسرا عند الضرورة، معوّدا إياه على ذلك، مما يطفيء من حرارة الجوع.
إنه بذلك يقلب الغريزة من الصورة العادية للجوع ، أي الرسالة المرسلة إلى الدماغ المركزي في الإنسان مع الإلحاح على الحاجة للأكل، إلى صورة جديدة تتمثل في عدم انتظار الأكل واستعمال المخزون البدني والذي، عادة، لا يعود له الجسم بداية، إنما في حال الضرورة القصوى مع عدم الحصول على الأكل رغم اشتداد الجوع وتزايد وتيرته.
وللجوع أيضا إرهاصات غير مادية لها نفس الآليات، إلا أن مجال تجليها ليس في الغريزة التي تحمل على الأكل، بل في غريزة أخرى تحمل إلى أكل من نوع آخر. هذا النوع يكون سواء معنويا، كالجوع إلى الغيرية، أي رفيق أو رفيقة لوقت قصير أو يطول، بما أنه لا حياة للإنسان بغير آخر مثله في البشرية، أو ماديا، كالجنس، وهو الرديف للبحث عن الآخر البشري.
إلا أن الجوع في غريزة الجنس لهو مما طغت عليه عديد التراكمات التي أفرزتها العادات البشرية وما رسب فيها من نظريات أيديلوجية غيرت معني الجوع الجنسي عند الإنسان رغم أنه أصلا من نفس نوع الجوع المادي؛ فصفة الأكل فيهما واحدة، وحاجة البدن لهما واحدة، إلا أنها تتم بصفة عادية وبدون مشاكل عند الحيوان غير البشري بينما هي عند الحيوان البشري هذا المجال المتشعب لمشاكل عدة تجعل لغريزة طبيعية قواعد وقوانين تختلف حسب نمط الحياة والأخلاق والملل والنحل. فإذا الجوع الجنسي، عاديا كان أو فيه إفراط، مما تتعدد فيه المشاكل وتتنوع المشاغل إلى حد نسيان طبيعته الأصلية كغريزة لا بد منها للحياة وليس فقط للتناسل.
ذلك لأن الاعتقاد أن الجنس هو بين البشر للتناسخ فحسب يطمس فيه صفته كجوع فسيولوجي لا غنى عنه إذا أردنا للبشر أن يعيش حياة طبيعية دون أمراض أو تعقيدات نفسية البتة.
من معاني الجوع الوجودية :
للجوع إذن، عند الإنسان، بعض المعاني غير تلك المعروفة عند الحيوان، تجعله هذا الجوع الوجودي الذي يمتاز به الإنسان عن الحيوان؛ على الأقل حسب علمنا الراهن.
إلا أننا، قبل التعرض لشيء من هذه المعاني، علينا التذكير أن الحياة، بما فيها البشرية، هي الحيوان، وأن الإنسان المتكلم، وإن سما بفكره وذهنه عن غيره من سائر المخلوقات، يبقى في تكوينه مثله، مخلوقا طينيا تنطبق عليه مواصفات كل الحيوانات في الطبيعة، لا يمتاز فيها عليها بأي شيء، خاصة في غريزة الجوع التي تهمنا هنا.
وجوديا، بعد هذه الملاحظة من زواية المبدأ، يمكننا القول أن معاني الجوع هي ما من شأنه التدليل على مدى بلوغ ابن آدم من التحكم في ذاته والسمو بها إلى المقام الأعلى، متساميا بها عن ماهيتها المادية الفانية؛ إذ فيها تبدو ما في نفسه من روحانيات وتتجلى روحه على حقيقتها.
ذلك لأن الروح الحبيسة في الجسم، والتي لها القدرة على الخلاص من ربقته فترة بعد فترة عند الموت الأصغر الذي هو النوم، لها أيضا أن تجلّي نوازعها في الخلاص من الطبيعة المادية البشرية بما يمكن لها أن تبثه فيها من جوع إلى وضعية غير مادية، هي روحانية أساسا. من ذلك ما وجدناه عند أهل التصوف من صبابة وعشق لا حد لهما إلى الله والفناء فيه؛ ومردهما جوع غير مادي، وجودي، متمثلا في التوق إلى الوحدة مع الحق، خالق الوجود كله، في جوع لا خلاص منه.
من ذلك أيضا جوع الحب الذي تحدثنا عن صفته العامة من قبل، وفيها الحب المادي وما يميّزه من جوع جنسي؛ إلا أنه هنا محض حب روحاني، وجودي، كحب بني عذرة. إن كل حب ليس للغريزة الجنسية فيه نقيرا هو من هذا الجوع الوجودي.
بل لعل للجنس أيضا تجليات جوع وجودي عندما يتعلق قلب ولب ابن آدم بروح ميت يهيم بها أي هيام إلى حد لعله يجعله يتعاطى معها الجنس كأنه من الاستمناء وليس هو منه. لقد وردت روايات عدّة في ذلك عن بعض البشر، كما أن في التراث حكايات من هذا النوع، دون أن تكون ضرورة من الخرافات بمعنى الترهات، تكلمت وتتكلم عن علاقات الحب بين الآدمي والجني؛ فلا شك أن ذلك يعني عدم استحالة إمكانية حصول الجنس بينهما بمثابة أكل خاص لجوع أخص.
هذا، وفي ديننا كما في حضارتنا، الاعتقاد الراسخ في أزلية الروح وإمكانية الاتصال بين الأنفس، بما في ذلك بين الميت والحي؛ كما فيهما حقية وجود الإنس والجان. لذا، نظرا لكل هذا، لا تمانع مبدئيا في فرضية حصول جنس غير مادي بين الآدمي وروح آدمية أو بين الآدمي وغير الآدمي من العالمين.
هذه بعض معاني الجوع غير المادية، وهي بلا شك وجودية بمعنى الكلمة الشائع، أي أسبقية الوجود على الماهيَّة البشرية؛ وهي هنا أسبقية الجوع على الاحساس به الذي هو من تجليات الماهية.
وهي أيضا لا تتعارض مع المعنى الفلسفي للوجودية، إذ المعنى الأخص للمفردة في حرية العبد المطلقة لصنع وجوده وتحقيقه كاملا حسب موقف منه فيه تمام الحرية. ولا شك أن الجوع الوجودي يحاكي هذه النزعة للتحرر لدن العبد من قيود البدن لصنع وجود له مغاير للوضع البشري بقيوده التي تفرضها عليه طبيعته الآدمية لا محالة.
نشرت على مجلة الدوحة الثقافية