Maffesoli l'Arabe
مسك ختام معرض الدار البيضاء للكتاب
Cadeau de fin du salon du Livre de Casablanca
من المقرر صدور آخر ترجمة لميشيل مافيزولي بقلم المبدع عبد الله زارو في آخر يومي المعرض.
وبهذه المناسبة، أعرض هنا كهدية لأحباء مافيزرلي العربي المقدمة التي أتحف قراءه بها وتقديمي لها وللكتاب.
هذا، وأجدد شكري هنا للأخ الأستاذ عبد الله زارو للفرصة المتاحة لي لتقديم ترجمته القيمة، كما أشكر أستاذنا مافيزولي على قبوله لعرضي تقديم الكتاب.
وقد تكفل أخي عبد الله بأسلوبه الرائق ترجمة مقدمة الأستاذ التي أعرضها هنا بالفرنسية والعربية كما كنت قدمتها للأستاذ زارو مرفقة بمقدمتي.
كما أنشر، لزيادة الإفادة والاستفادة، نص رسالة مني للأخ زارو، تضمنت بعض التعليق حول جوانب من ترجمته الأخيرة، ردا على ملاحظات قيمة وردت من صديق لنا، الأستاذ البشير التهالي، الذي أحييه بهذه المناسبة.
ودام الإبداع في الفكر العربي !
ولا بد لي هنا من تحية الناشر أفريقيا الشرق، مع التعبير له عن أمل كل عشاق الفكر المتقد لأن يتحفنا سريعا ببقية ترجمات عبد الله زارو الذي ترجم بعد على الأقل كتابين آخرين لمافيزولي، وهو بذلك بصدد النجاح في التحدي الذي آل على نفسه كسبه، ألا وهو ترجمة كل مافيزولي إلى عربية فصيحة بليغة فيها معنى ومغنى كما هو أسلوب الأستاذ تماما.
فهنيئا للمكتبة العربية بمثل هدا الإبداع وهنيئا لمافيزولي باطراد نمو قرائه في العالم العربي وخاصة المغاربي، وهنيئا لنا بدار نشر مثل أفريقيا الشرق الغراء!
وفي الختام، لا تفوتني الملاحظة أن فكر مافيزولي يغذي آخر ما أصدرت عند أفريقيا الشرق، وهما : تحليل سيوسيولوجي لشبه مرض الألزهايمر في أحدث توجهات العلم لفهم هذه الظاهرة؛ وقصة تاريخية لبدايات الإسلام من خلال أحداث خلافة الرسول، وهي تنصهر في ما أسمية بالإسلام المابعد حداثي.
À l'occasion de la fort probable sortie aux deux derniers jours du Salon du Livre de Casablanca de la dernière traduction de Michel Maffesoli par mon ami, le talentueux Abdallah Zarou, voici mes cadeaux aux amoureux de la pensée du Maffesoli arabe :
- La préface, en français, du livre par Maffesoli et sa traduction par mes soins. À noter qu'on retrouve dans le livre la traduction propre de Zarou.
- Ma propre introduction en arabe du livre sur invitation de mon excellent ami Zarou.
- Une lettre adressée à Zarou comportant commentaire d'annotations du livre selon non ami commun, que je salue ici, Bachir Tahali.
Je saisis cette occasion pour saluer notre vaillant éditeur Afrique Orient qui gâte les aficionados arabes de la pensée passionnée dans son écrin de haute qualité qu'est la plume zarouine.
Et je formule le souhait qu'il ne tarde pas à éditer les autres chefs-d'oeuvre déjà traduits, notre talentueux traducteur de Maffesoli en arabe étant en passe de réussir son pari de traduire tout Maffesoli. Une belle gageure au diapason d'une pensée passion.
Enfin, je ne manque pas l'occasion de signaler mes deux dernières publications chez Afrique Orient, marquées par l'esprit maffesolien. D'une part, un essai sociologique sur la soi-disant maladie d'Alzeimer, présentant la plus récente approche humaniste de ce mythe produit par l'industrie pharmaceutique.
D'autre part, une fresque historique sur les origines de l'islam à travers le récit de la succession du prophète; ce qui entre dans le cadre de ce que je nomme islam postmoderne.
مافيزولي العربي
مقدمة ميشال مافيزولي للكتاب
(بترجمة فرحات عثمان وتذييله لها )
جامعة باريس دي كارت
السربون
كلية العلوم الإجتماعية
45 نهج الآباء القديسين
75006 باريس
الرابع من ماي 2013
لعله ليس بعديم الجدوى التذكير ، في هذا العصر الذي غلبت فيه صفحات المتنوعات بالجرائد، بأن الحالي والحالية لا معنى لهما إلا بما هو غير مستمر في اليومي. فلا حالي ولا حالية إلا إذا عرفنا التنبه إلى ما هو من التدشين؛ فجريان النهر لا يبدأ خارج بدء منبعه. ولو أردنا الإفصاح عن هذا بتعبير آخر، بعيدا عن ترهات المُلح، فلنقل أنه علينا معرفة وسم جذور التغير الرائج. ففي هذا يكمن سر الفكر الجذري الذي لا يعبأ بتلاعب النخب الجانحة إلى الهلاك بالكلم، متحذلقة في لعبتها تلك. فهذا هو ما أسعى إلى التأسيس له في كل كتبي، وهوذا ما يقول ويثابر على تكريره «عود الزمن على بدئه».
يقول مونتاني : «إن البشر يذهبون دوما فاغرين إلى الشؤون المستقبيلة» (المباحث 1 ، الباب 3) ناسين صلاح الحاضر، وأيضا ما انقضى من أمور. والمؤكد هو أن أسطورة التقدم (في شكله المتضخّم Progrès) لهي المرض العيني لصنفنا الحيواني. فهو حقيقة «ملء الدَرَكة» (boîte de Pandore) باحتوائه كل الأوهام في تورّمها بكل المخاطر إذا لم نعرف كيف نعدّله بحكمة التقليد التي لا تعيها الذاكرة. لقد بدأتُ مجرى حياتي بتحليل ناقد لماهية «التقدم والمصلحة العامة» وأحيل القاريء الطُلعة إلى تلك الصفحات غير الموافقة بالمرة لزمنها.
وكانت غايتي من وراء ذلك الإشارة إلى ما في التقدمية، كمونا، من نزعة إلى التخريب. فليست إلا التدريجية، هذا النسق التصاعدي الذي يميّز ما أسمّيه «التعريق الفعّال»، التي من شأنها إعانتنا على فهم ما نعيشه حاضرا. وذلك من الأمور الجد بسيطة التي يجتهد «التقدميون» من كل جنس على إنكارها ويثابرون بكد في ذلك. فإن الفكر التجريبي، فكر العقل السليم، ليعرف جيّدا أن ما تجب له الولادة، ما يحدث في عصر محدد، ينضج على الهوينا في العصر الذي يسبقه.
فالذهن الصاحي، الخالي من الأوهام، وهو في ذلك على شاكلة الإله الأسطوري جانوس ذي الوجهين، يتقن النظر إلى العالم وهو بصدد الانتهاء، الشيء الذي يمكّنه من الكشف عن المميّزات الجوهرية للعالم الذي هو بصدد البروز. وحتى نهجر اللغو من الكلام فنتركه وتعزيماته غير المجدية، علينا التجاسر بالقول أن ما عرفنا من تلك الصيغة الخيماوية القديمة لهو دوما بالحالي، أي المقولة الآتية : «أنت تموت فتحيا». وهذا يسمح بإبراز هذه الحقيقة القائلة بوجود نواة هي النموذج المثالي الذي يتعذر ردّه أو نقضه.
وهكذا، خلافا لما يكتنفنا من ضرورة الانضباط وما في ذلك من السهر على سداد الرأي، من المناسب التذكير بماهية الحالية الحقيقية : فهي فعلية ما بعد الحداثة. ولعلي أكاد أنزع للقول، بصفة مفارقة شيئا ما، بعودة ما بعد الحداثة طالما هي تضخّ وتحيّن الصفات الأساسية لسبق الحداثة من عشائرية، ونزعة الترحّل، والمتعية؛ فكل هذا بصدد العودة في الأيام التي أظلتنا.
إنه لعند أهل الفكر الخوف كل الخوف للتصدي لهذا الواقع ومجابهته؛ لذا تراهم يتحدثون عن حداثة من صنف ثان، وهياج الحداثة، وحداثة مفرطة، وحداثة متقدمة، وما إلى ذلك من الجهالة على نفس الشاكلة. وكل هذا في محاولة لإنقاذ عالم مهجور؛ إذ ليست الأمور إلا على هذه الحال : فاللاوعي الجماعي لم يعد يعرف نفسه في القيم الكبرى التي كوّنت عهد الحداثة. فلقد بدأت مرحلة مع القرن السابع عشر، وها هي تشرف على النهاية فلا نقدر على التسليم بذلك.
إن تاريخ الفكر، تماما كالتاريخ المجرد، ليسجّل فترات هي من الخدر الذهني طويل الأمد ثم هي من يقظة ليست أقل مباغتة. ونحن على مشارف مثل هذه اللحظة المفصلة التي يعود فيها الطابع الاجتماعي القاعدي مجددا إلى هيجان شعبي أكيد، بينما نجد صفوة المجتمع تستفيق بصعوبة من سباتها العميق العَقَدي. ولا غرو أن هذا الأخير هو السبب والنتيجة لعقلية الغل المتفشية كميزة عند النخب المعاصرة.
إن ما يجعل زعماء الرأي «المنشور» (أو ما يسمّي بالرأي العام) من هذه النخب لا يقدرون على التنبه إلى القوى البركانية الديماسية التي تزعزع جوفيا الجسم الإجتماعي، والتي تخرق بالتأكيد بين الفينة والأخرى سطح الأرض من الأعماق، أنهم يتركزون حول ذاتهم. وليتأتى لهم ذلك، فلا بد لهم من القدرة على التطهر من إيقاناتهم والتيقظ لما هو حقا من الواقع، ثبت الوجود؛ أو ذلك، ولنقله بأسلوب أفلاطون المجازي في الجمهورية، 521-س، هو «في قلب المحار». وهذا يعني القيام بتغيير كامل لتطلعنا للأمور بما تتأتى منه القدرة على معاينة الموضع الذي يكون فيه الكلم والفعل وكل شيء في انسجام مناسب. وهذا لا يعني ما نبتغيه عادة من الحكم العدل سابقا للتجربة، مجرّدا نوعا ما، وفي كل حال ذي صبغة أخلاقية، بل الإحكام السديد والاستدلالي الذي من شأنه التطابق كيفما كان ذلك مع العالم كما هو ومع الآخرين حسب ما هم عليه.
لقد أشرت إلى رمز الإله جانوس، روح المنافذ والعتبات، الذي كانت له القدرة للنظر إلى الوراء وإلى الأمام في نفس الآن. فهناك هذا الذهاب والإياب الدائمان في الثالوث الزمني، بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا ما حمل ليون بلوا على القول الراعد في تعبير حيوي أن «كل شيء رائع» وأن «النبيء هو الذي يذكر المستقبل».
فعلا، إن القدرة على تثمين الحاضر كضمان لما سيقع في المستقبل لهي في ذكرى ما هو متجذر. والمقصود هنا هو هذه الحوارية أي «الفعل وردّة الفعل» كما لعل أدغار موران يقوله في التنويه بضرورة كل شيء ليكون العالم. وهذا ما فهمته الحكمة الشعبية التي تقبل بالظل كمكمّل للنور؛ فنعم المفهوم هذا للنور المظلم للكينونة عند الرأى العام، الشيء الذي يجعل مختلف زعماء الرأي «المنشور» لا يدركونه.
وهكذا، الكل يعرف جيّدا أن وراء الأفكار المبتذلة حول الأزمة، تلك التعزيمات التي تجيز عدم التفكير، هناك الحياة في انبساطها وهي تداوم على ماهيتها : «تلك هي الحياة!». فبخلاف الانتحاب المصطنع الذي يختص به المعلقون، هناك البرهان المحقق، وهو حجة العقل السليم، بمعنى أنه دليل فكرٍ مبني على الملاحظة والاختبار، ولكن أيضا قياس كل فكر أصيل، ذلك الفكر بعينه الذي حمل غاليليو على التأكيد، بعد أن استدرك قوله في دوران الأرض : «رغم ذلك فهي تدور»! وفي هذا الكفاية.
وبالفعل، كل محقق في محاكم التفتيش، أيا كانت السلطة المرجعية التي يدين لها، يكدّ في صيانة سلطانه المنصّب، وهو تلك السلطة الدلالية المعيارية. إلا أن السيادة التأسيسية في الحياة اليومية لهي أكثر بكثير في القوّة لأن العبقرية التي تختص بها تقوم على تكيّف دائم وعميق مع الظروف، واستواء مع إقبال الدنيا وإدبارها، وملاءمة لمصادفات الحياة في تطوّرها. أليس من شأن كل هذا تمكيننا من الكلام عن تموضع شعبي؟
لعل هذا هو أشدّ ما يفرّق الرأي المنشور والرأي العام. فبقدر ما يبقى الأول ملبّد الذهن بالطوبى العقلانية، وهي وهم الحداثة، بمعنى أن لكل شيء علّته وكل شيء يجب أن يخضع للعقل؛ بقدر ما الثاني يقتضي ما نعتّه بالطوباوية البيفُرَجيّة، أي تلك التي بوقوعها وحدوثها بين فرجتين وفجوتين بإمكانها احتضان كل ما هو ممكن في الحياة؛ وذلك يعني الظل والضياء، الخير والشر، السوي والمريض. وقد لاحظ هذا كبار المفكرين، ومنهم ج. م. قيويو ثم أ. دوركايم في نهاية القرن 19 مسيحي عندما قررا أن الفوضوية (أي لا فقط بمعنى اللانظامية، بل كل ما هو وراء القانون أو مجانب له) لها أيضا وظيفة أخلاقية تدعّم العيش الجماعي.
هذه تأملات أقدّمها للجمهور ببلاد المغرب بمناسبة صدور الترجمة الجديدة للسيد عبد الله زارو مع شكري الحار لكل هؤلاء الذين يجتهدون للتعريف بفكري في هذه الربوع التي أحبها والتي تربطني بها أواصر جد وثيقة.
ميشال مافيزولي
أستاذ بالسوربون
المعهد الجامعي بفرنسا
محافظ المركز القومي للبحث العلمي
تذييل للمقدمة
لقد تفضل الأخ عبد الله زارو مشكورا بأن عرض علي تقديم ترجمته هذه لأستاذنا ميشال مافيزولي، فقبلت العرض الكريم بكل امتنان رغم كثرة المشاغل، وبخاصة ما يتعلق بظروف بلدي تونس، نظرا لحرصي على القيام بالواجب إزاء هذا الوطن بالأخذ بنصيب في ما بصدد التأسيس له على أرض الخضراء.
ذلك لأني رأيت أن أنزل على نفسي نزلا فأشارك الأخ زارو ولو النزر القليل في مهمته الشاقة والرائقة في التعريف بفكر هو من أنبغ ما أفرزته عصارة الذهن البشري اليوم سواء في روعة الكلم في مجامعه أو سخاء المعنى في بلاغته أو سلاسة الأسلوب في عبقريته. فكل ما يكتب مافيزولي لفيه روعة في أدائه لأنه ذاك السهل الممتنع أو الممتنع فإذا به عنده من السهل سلسبيلا.
وما حمّسني أكثر هو أني رأيت أستاذنا يقبل عرضي بالتقديم بنفسه للترجمة؛ فزادني ذلك همة لاستغلال الفرصة حتى أقول كل ما أكنه له، علاوة على المودة التي يشاطرنيها، من إعجاب وتقديم لفكره وشوق في أن يفرض نفسه أكثر ببلاد العرب، كما شاع وانتشر في العام أجمع، وخاصة بالبلاد الأمريكية الجنوبية. ويأتي ذلك طبعا بالإضافة إلى رغبتي في التعبير للصديق عبد الله زارو عن إعجابي بعمله الرائد ونجاحه الباهر في تقديم الأفكار الفذة لمعلمنا بشكل رائق عذب النغمة دون المساس - أو بشكل جد عرضي - بما هو فيها تقريبا بنفس الأهمية في علو الكعب، ألا وهو المعنى طبعا.
لأن المعنى في عمل عبد الله زارو فيه الكثير مما يمكن نعته بالمغنى، وذلك منذ بداية رحلته الرائقة والشيّقة (ولعلها أيضا شائقة) في فكر مافيزولي مع ترجمته الأولى : في الحل والترحال.
فهو ذاك المغنى في أسلوب له نوتة خاصة لا تضاهيها إلا معزوفات الفن الكلاسيكي. ذلك لأنك عندما تفتح كتابا لمافيزولي، أيا كان الكتاب، فكأنك تبدأ في الاستماع لقمة من قمم الفن الرابع. فسواء قرأت أشكال التيه المعاصرة، وهو العنوان الثاني لباكورة ترجمات عبد الله، أو عود على بدء، ثانيها، أو هذا العمل الذي بين أيدينا، فإنك لا محالة تخال نفسك مع موسيقى موزار أو بيتهوفن أحيانا، وباخ أو رمسكي كورساكوف أحيان أخرى، و رافيل عادة.
وللخيال يُترك العنان في كتب مافيزولي؛ فهذا الجني يخرج لا محالة من بين الصفحات ما إن تفتح أحد كتب الأستاذ، وهي قمقمه في فترة ما بعد الحداثة، فيملأ الذهن ثم الأرض عجبا. إن قراءة مافيزولي في الكتاب الذي نقدم له، والذي يلخص نظريته في مفهوم الفترة التي ألمت بنا، يدخلك إلى عالم من الواقع الخيالي أو قل الخيال الواقعي، أي أنك ترى مع تقدمك في القراءة قريحتك تتفتق وآفاقك تتفتح، فإذا بجناحين ينبتان على ذراعيك، وإذا أنت تحلق عاليا في السماء، فتجدك بين الأفكار الأفلاطونية؛ وإذا كل الدنيا وهمومها صغيرة جدا تحتك، لا تراها بعد ذلك إلا بعين أخرى، عين من يعلم، ذاك الحكيم الذي انفجرت تجربته الغزيرة فجأة من خلال ما طالع لمافيزولي.
إننا لا نقرأ لمافيزولي، بل نأكل نهما ونشرب دون ارتواء. ففكره هو كمقطوعة الباليرو لرافيل، تلك النغمة الوحيدة التي تتكرر دون لأي ودون رطانة ودون أي إزعاج في عذوبة وسحر وأناقة، إذ هي متجددة كل حين، تماما كالحياة والموت يتعاقبان في باليه لا نهاية له.أليس في ذلك سر الحياة، وقد فهمه مافيزولي وتكلف بشرحه لمطالعيه؟
لقد عبّر أستاذنا في كتبه التي لا يحصى عددها، والتي تنوّعت ترجماتها في العديد من اللغات، عبّر عما يختلج بفؤاد الإنسان في كل زمان من هموم دنياه دون نسيان شؤون آخرته. فمافيزولي، كما قال بعضهم، لهو عالم اجتماعي روحاني، إذ فكره بحق من تلك الروحانيات المادية أو - ولنقلها مستعملين ما لا يرفضه أستاذنا من المجاز - ما يكمن في المادية البشرية من لا مادية؛ فهل يكون البشر جسما بل روح؟
لقد أعاد فكر المعلم مافيزولي الروح إلى بدن علم الإجتماع إذ ارتفع به من مجرد نطاق الأرض والبحث والتنقيب فيها إلى علياء التحليل محلقا في السماء، لا يعير أهمية كبرى لما سُمّي بعلم الإجتماع الكمي، فهو ينتمي إلى مدرسة علم الإجتماع الفهيم، وبصفته تلميذ المعلم جيلبار ديران، الذي فقدناه مؤخرا، فهو يعطي للمخيّل كل ما يقتضيه من أهمية ويفرضه من قيمة.
وطبعا، كل ما في مؤلفات مافيزولي هي من التأقلم بمكان مع واقعنا العربي في تقلباته وتناقضاته. بل أنا أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول أننا عندما نفتح كتب معلمنا فكأننا نقرأ في فنجان العرافة صيروة مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
ولعل ما بدأنا نتعود عليه من هيجان (وأنا أستعمل هنا هذا التعبير بالمعنى الذي أعطاه له مافيزولي بعد دوركايم) في نطاق ما سمّي بالربيع العربي ليس إلا تجليا لفكر مافيزولي عربيا. فإنك ترى مافيزولي العربي في شوارع تونس اليوم بعد أن تحررت مع الثورة مما كان يكبل شعبها من قيود، فإذا هو على سليقته يسم البلاد بتلك المسحة الأساسية المابعد حداثية كما أكد ذلك لي بنفسه في حوار أجريته له لصحيفة ألكترونية من تونس بلدي.
ولا شك أني أرى أيضا مافيزولي العربي في المغرب والجزائر وليبيا ومصر وغيرها من الدول العربية. وما من أحد يطالع كتب الأستاذ وهو متشائم مما يحدث في تلك البلاد لعدم فهمه لمجريات الأمور إلا ويخرج متفائلا بمصيرها الأفضل لدخولها في حقبة زمية جديدة ليست الأزمة الحالية إلا المؤشر لها. وهي أزمة أساسا في عقولنا، إذ الحياة تتواصل في الواقع المعاش، لا كما كانت بل أحسن بكثير؛ ويكون ذلك خاصة بعد زوال نظام الماضي المنهار لحلول النظام الجديد. فمافيزولي يعطي لقارئه مفاتيح الولوج لما يخفى عادة على أنظارنا من مستقبل بلداننا رغم معرفتنا لها، إذ نكتشف عندها أنها معرفة سطحية لا تنفذ إلى ما يسمية الأستاذ المركزية الجوفية.
نعم، هناك نظام ينهار في بلاد الربيع العربي (بل وهو على وشك السقوط في كل بلاد العرب)، وهناك فوضى وزخم ثوري في شوارعها، ولكن ليس هذا إلا المؤشر الكبار على ولادة نظام جديد؛ فلا احتضار لنموذج نظامٍ إلا ويقوم غيره، لأن ما هو أفضل على الأبواب دوما ولو طالت السقيفة؛ فالموت ليس إلا حياة جديدة، إذ في كل نهاية شيء بداية الشي مجددا في ولادة ثانية. هذا هو قانون الطبيعة، وتلك سنة الله في خلقه. إنه العود على البدء كما ترجمه الأخ عبد الله زارو، ولو أني أحبذ شخصيا التعبير الذي استعملته آنفا في هذه المقدمة للأستاذ مافيزولي.
نعم، إنك ترى زارو في تعلقه بضرورة ما سميته آنفا بالمغنى في فكر مافيزولي الرائق يلجأ إلى التعابير الأنيقة التي فرضت نفسها بإبداعها في تراثنا العربي ولغتنا الثرية، فإذا هو يستعمل عبارة الحل والترحال لترجمة ما كنت شخصيا أعبر عنه بالتبدّي، أو عبارة العقل الحساس في ترجمته السابقة لهذه والتي أعبر أنا عنها بالمعقول الحسي أو العقلية الحسية حتى أبيّن هذا النشاز المبدئي والذي هو في الحقيقة تكامل بين العقل والحس.
ولسوف أستغل الفرصة في هذا الصدد لأقول أني في ما يخص العمل القيّم الذي نقدم له اليوم لكنت ربما أترجم بعض التعابير بصفة أخرى غير تلك التي اختارها الأخ عبد الله دون أن تكون اختياراتها خاطئة طبعا. ففي لغتنا من الثراء ما يسمح بالأبداع في الاستنباط.
فلا غرو أن ما قلته من ثراء لغتنا وهو ينضاف إلى الثراء الهائل لفكر مافيزولي في المعاني وتنوعها في رونقها الذي لا مثيل له، كل ذلك يسمح بتجاوز الأشكال المألوفة أو التي ننزع إليها طالما كان ثوبها من الحسن والجمال بالمكان الذي لا يشين جوهرها، أي معدن هذا الفكر في معانيه. وهذا ما هو مضمون عند عبد الله زارو.
ولا بأس إذا لختام هذا التذييل المتواضع للتقديم الذي تفضل الأستاذ فخص به تلميذه عبد اللله زارو، تقديرا لجهوده وتحية لكل محبيه في البلاد العربية التي أحبها كما يصرح بنفسه بذلك، لا بأس من التعريج في عجالة على ما يمكن التنويه به أو نقده في هذا العمل حتى نبقى أوفياء لقواعد العمل الأكاديمي.
ولكن دعونى أولا الفراغ من التصريح بما هي قناعتي اليوم وأنا تونسي أعيش يوميا كتابة التاريخ ببلدي الذي ليس هو إلا قطعة من بلاد العرب. فأنا لأقول وأكرر هنا أني أعتقد فكر مافيزولي هذا الفكر النيّر الذي يحتاجه العرب اليوم لبناء نظام جديد سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي؛ فمافيزولي في أطروحاته هو عربي حتى النخاع، وذلك لأن كتاباته تؤكد أن فترة ما بعد الحداثة التي نعيشها هي ولا شك الثأر لقيم بلاد الجنوب؛ وهي أيضا عودة الروحانيات بقوة. وكل هذا يمثّل ولا شك ما يختلج بصدر كل عربي وما تحمله الأحداث في بلادنا من المحيط إلى الخليج.
إن الأحداث التي تتوالى في البلاد العربية لهي التأكيد الدامغ لصحة رؤى ميشال مافيزرلي وقد كان سبّاقا للتنظير لها. فهي تعبّر عما سمّاه أستاذنا بالتجذر الحيوي، إذ لا يبيّن قوة الدين الإسلامي إلا متانة رسوخه بالمخيلة الشعبية لكونه أساسا ثقافة وحضارة قبل صفته كدين. وذلك ما يعبر عنه مافيزولي بشعبية الدين.
ولعل أساطين الصوفية، صوفية الحقائق، قد عبّروا عن ذلك من قبل. وقد تحدثت مع أستاذنا في الموضوع، فقال بصراحته المعهودة بعدم معرفته الدقيقة لهذا التيار؛ ولعله لن يطول الزمن إلا وقد ارتاد ثنايا هذا الفكر وقد بهر سابقا أستاذه ديران كما بهر العديد من المستشرقين، ومنهم هنري كوربان الذي كان يتحدث عن الإسلام الروحاني. ففي هذا الإسلام، وفيه أساسا، مستقبل الإسلام كدين علمي عالمي، هذه الثورة المستدامة التي تجعلي، للتدليل على خاصيتها هذه، أخطه إ-سلام لتزكية المخزون الثقافي الكبير والحضاري الكوني الذي يحمله ديننا. وهذا موضوع أطروحة لي بصدد الكتابة، ولعل للحديث بقية آجلا.
أما الآن، واحتراما لعمل عبد الله زارو القيم، ومن باب النزاهة العلمية، أسوق في ما يلي بعض الملاحظات الشكلية مع التذكير أن والشكل عند مافيزولي هو من الأهمية بمكان، إذ الشكل عنده عنصر تكوين.
أبدأ فأقول عن العنوان الفرعي لهذا الكتاب أني كنت أحبذ لو كان أكثر دقة باختيار تعبير الأشكال الأولية أو العنصرية عوض الأساسية.
ولعل ما قلته عن ولع زارو بالأدب العربي في معناه الأصيل يتمثل في تصديره للكتاب ببيت شعر أبي العتاهية، فهو الدليل على تعلق مترجمنا بكل ما من شأنه أن يضفي على عمله تلك المسحة من الشاعرية الحالمة التي لا تغيب في كتابات مافيزولي. ولكن مع تنويهي بهذه اللباقة، فإني أرى أن البيت المذكور، رغم طرافته، لا يؤدى المعنى الذي يهدف له الكتاب.
نعم، إنه كما عنونه زارو ولا محالة عود على بدء؛ ولكنه ذلك العود دون تأوه من الحاضر وإن كان فيه حنين للماضي. فهذا العود هو عود لبداية جديدة لا ابدأ مع الماضي وفي الماضي، وإنما أصلها وإن كان من الماضي فهو في الآن نفسه ذلك الفرع المتأصل في الحاضر والذي هو تماما بقيمة الأصل؛ فلا فرق بين الفرع والأصل عند مافيزولي. وفي فترة ما بعد الحداثة، كل فرع هو أصل لفروع أخرى، وكل أصل هو فرع لأصول لعلها اندثرت عند البعض أو في عيون الناس، ولكنها تبقى في الفروع أصولا ثابتة وتبقى بخاصة في المخيل الاجتماعي.
وفي ما يخص التدقيق، ورغم العناية الفائقة للمترجم بالمعنى، فقد يعرض أحيانا لشيء من انعدام الدقة كما وقع ذلك في كلام ماكيافيل في عبارتي تكرر الخطأ عوض حدوثه والحكم له أو عليه عوض تفنيده؛ وقد تأتى لي في فرصة سابقة أن ترجمت نفس كلام الأديب الإيطالي هكذا : «عندما يحدث الخطأ فيعم كل الناس أو عظمهم، فليس من غير المستحب العودة المتكررة لتفنيده.»
وما دمنا في باب الاستشهاد، فالأمر نفسه مع ما تمثل به المترجم من كلام والتر بنيامين الذي كنت أيضا ترجمته في عمل لي كما يلي : «كل فترة من التاريخ سبقت، وإن كانت حبلى بالتي تليها، فهي لا تحلم فقط بميلادها، إذ هي تجتهد بحلمها في التنبه لذاتها.»
أما عناوين الأبواب، فمنها ما حاز إعجابي لطرافته وإبداعه، مثل عنوان الفصل الثاني : علو كعب اليومي، و الفصلين السادس والسابع : غريزة التيه وعتاقة وتقانة. إلا أن لي احتارازات على الفصول الأخرى.
فالفصل الأول كان يمكن اللجوء إلى تعبير عربي أصيل عجبت كيف لم يتفطن له مترجمنا البارع، وهو التزميل أو الدثار ما بعد الحداثي عوض الحاوي. وكان أيضا بإمكانه الركون لتعبير أبسط مثل الإحاطة أو الحيطنة كمحضنة، وهو المقصود بكلمة Enveloppementalisme إذ المعني هو أن المكان هو بمعنى الرابطة le lieu devient lien. أو لعله كان بالإمكان رد المعنى بتعبير الظرفية، من ظرف مظروف.
أما الفصل الثالث، فيبدو أن مترجمنا تردد في اختيار التعبير المناسب، مما حمله على الاستعاضة بثلاث كلمات عن كلمة واحدة، وكنت أحبذ لو اكتفى بالكلمة الأولى، أي مناخيات، دون الإضافة المثناة، أو لربما كان بالإمكان هنا الأخذ بالترجمة الحرفية للصوقها بالتعبير الفرنسي ومعناه، وذلك بالاكتفاء بتعبير علوم المناخيات لترجمة Climatologie. ونحن نجد هنا أكبر دليل على ما يميز عبد الله زارو، أي شدة حرصه على الإبتعاد عن الترجمة الحرفية والعمل دوما على الإبداع.
أما عنوان الفصل الرابع، فإني لا أوافق زارو في ترجمتة بالقبيلة تحتوي الفرد؛ ولي احتراز كبير على ذلك لأنه ليست القبيلة هي التي تحتوي الفرد، بل الفرد التي يتفرق وتتفرقع ذاتيته قبائل شتى؛ فهذ هو معنى Dessaisissement وهو حرفيا بمعنى الترك والتخلّص أو التنازل ورفع اليد. فرأيي أن زرارو هنا أخطأ لا في فهم مغزى المعنى العام وتوجهه، بل صفته وطبيعة العملية التي يشير إليها أستاذنا. فلا قبيلة موحدة تحتوي الفرد، بل الفرد يفقد تفرده فيتعدد ويصبح أمره مترامي الأطراف بين قبائل عدة. فكان إذا الأصح القول بإن الفرد تحتويه قبائل عدة أو يتعدد الفرد بين قبائل عدة. ولعلي كنت أترجم هذا الباب هكذا : التعدد القبلي للفرد.
ولم يعجبني صراحة عنوان الفصل الخامس: حين يغدو المعنى أرضيا. فمعنى الكلمة الفرنسية Invagination يشير بالفعل إلى التجوف والعودة إلى الأرض كما فهمه زارو، ولكن هذا التعبير الصعب حتى بالفرنسية لا يشير ضرورة لمعنىً أصبح أرضيا، وإن كان ذلك ممكنا، ونحن نعلم قيمة العودة للأرض عند مافيزولي. إن المعنى وهو مأخوذ عن علم البيولوجيا يعني العودة للأصل، وهو اتحاد المعاني بين بعضها في غريزة حياتية تجعلنا متحدين في كل ما هو أساسي في الإنسان، لأن البشر بالطبع له حاسة الذوق والتذوق، وأفضل ما تتعاطاه هذه الحاسة هي تذوق الآخر. لذا، لعله كان من الأجدى التعبير عن المعنى بالتأصل أو التجوف دون ذكر الأرض، مع الرمز لكل المعاني التي تتعلق بالجوف وما يحتمله من عودة إلى الأصل.
وأما الفصل الثامن، وعوض المتخيل وعالم الصور، فلعلني كنت أترجمه هكذا : من المتخيل إلى المثالي، إذ في معنى كلمة imaginal أكثر من عالم للصور، أو أن يكون هذا العالم مثاليا، وعندها يتم المعنى.
أخيرا وليس بآخر، وحتى نثق من شدة صعوبة أسلوب مافيزولي ومدى علو باع عبد الله زارو في التوصل للحفاظ على كل سحره، نراه أحيانا يضطر للقفز على بعض التعابير والتضحية بها نظرا لأن لا قيمة كبرى لها لأداء المعنى، رغم أني أرى لها من الرونق ما يمكن الإبقاء عليها حتى وإن أدى الحال إلى مفاجأة القاريء. خذ لك على ذلك المثال التالى في هذه الفقرة في ترجمة زارو:
«لهؤلاء جميعا نقول: إنكم فعلا كثرة كاثرة لكنها ليست أبدا ضرورية. ويكفي أن نستحضر في هذا الباب بأن الحاجة إلى الخداع الذاتي كانت دوما المحرك الأقوى للمداهنة الفكرية، وهذا ما يجعلكم عابرين في كلام عابر، ما أن تمر الدقائق المعدودة التي يستغرقها مجدكم حتى تنتهوا إلى مِعظمة الأفكار الميتة.»
في هذا الفقرة المأخوذة من الكتاب الذي بين أيدينا، نرى المترجم وقد غض النظر عن كلمات تنتهي بها الفقرة الأولى؛ أما إذا اعتبرناها، فالجملة الأولى تصبح كالآتي : « لهؤلاء جميعا نقول: إنكم فعلا كثرة كاثرة لكنها ليست أبدا ضرورية طالما بول الأحمرة هذا الذي يبدو بمظهر التحليل يطغى على القنوات الرسمية للامتثالية التي تكتنفنا».
فهل كان هذا من باب السهو أو مقصودا؟ لا أعتقد أن الأستاذ عبد الله زارو ممن يسهى في عمله، لذلك فرأيي أنه تعمد طرح هذه الفقرة أخذا بعادات قرائه العرب في الابتعاد عن كل ما من شأنه الإثارة؛ ولا شك أن في التعبير منها بعض الشيء.
ثم تبقى هناك بعض المفردات التي يمكن قبولها وإن اختلفت، مثل علم الاجتماع التفهمي عند زارو الذي أترجمه شخصيا بالفهيم بمعنى التفاهم والأخذ المتبادل لمفهوم الأشياء، وهو من الوضوح البين في تعبير زارو دون التأكيد على التبادل.
وبعد، إن ما يمكن أن نعيبه على الترجمات عامة في بلادنا اليوم هو أنها تبقى ترجمة أكثر منها تعريبا، ونحن نعلم الفرق الأساسي بين ما هو من الترجمة وما هو من التعريب. فالعديد مما بين أيدينا يكتفي بإعادة النص إلينا في قالبه الأجنبي دون أن يطبعه بطابع اللغة التي نُقل إليها.
ولا شك أن حرص الأخ زارو على الابتعاد عن مثل تلك الخطابات الطنانة التي اعتدناها في ثقافتنا يجعله ينتقي ويختار ما هو في نظره الأفضل في جماله حتى وإن حمله ذلك أحيانا إلى الابتعاد شيئا ما عن المعنى الأصلي، دون أن يتنكر لما فيه من أصالة وجمالية.
لذا، فمجهوده الكبار في رد النص الفرنسي بكل ما فيه من بلاغة ليذكر فيشكر، ولا شك أنه مما يحتمل التحسن والتحسين، وهو لا محالة مما يسهر عليه ومما سنرى له نتيجة حتمية في ترجماته القادمة مثل هذا الشيطان فينا أو الكامن فينا، وهي الترجمة التي أستسمحه اقتراحها عليه للعنوان الموالي الذي ينوي تعريبه. فلا غرو أن فكر مافيزورلي يقتضي مثل هذا النمو اللامتناهي.
ولإسعاد قراء لغة الضاد وأحباء ترجمات عبد الله زارو أزف لهم بشرى عزم الأخ الكريم تعريب الأعمال الكاملة لميشال مافيزولي، هذا التعريب الذي يليق بجودتها وتميّزها وعلو كعبها.فدمتم، يا سيد زارو لقراء العربية، ودامت أياديكم البيضاء على المكتبة العربية، وهنيئا لها بفكر ميشال مافيزولي العربي في الحلة التي يسربلها بها المبدع عبد الله زارو.
فرحات عثمان
ديبلوماسي سابقا، باحث في علم الإجتماع، سياسي
ومدوّن : تونس الجمهورية الجديدة
http://tunisienouvellerepublique.blogspot.fr
النص الفرنسي
لمقدمة ميشال مافيزولي للكتاب
4. 5. 2013
UNIVERSITÉ PARIS DESCARTES
SORBONNE
Faculté des Sciences Sociales
45 rue des Saints Pères
75006 PARIS
-------
Tél : 06 62 03 26 76
michel@maffesoli.org
www.michelmaffesoli.org
Centre d'étude sur
l'actuel et le quotidien
--------
C.E.A.Q.
En cette ère où prévalent les pages de variétés, peut-être n’est-il pas inutile de rappeler que l’actuel, l’actualité, n’a de sens que par ce qui dans le quotidien est impermanent. Il n’y a d’actuel (d’actualité) que si on sait être attentif à ce qui est inaugural. L’écoulement d’un fleuve ne se comprenant qu’à partir de sa source principielle. Pour le dire en d’autres termes, au-delà des broutilles anecdotiques, il faut savoir repérer les racines du changement en cours. Là est le secret d’une pensée radicale n’ayant que faire des jeux verbaux des élites en perdition jouant les rodomonts. Voilà ce que je tente de faire dans tous mes ouvrages, voilà ce que « Le temps revient » dit et redit avec constance !
Montaigne, note que « les hommes vont toujours béant aux choses futures » (Essais I, chap. 3), oubliant l’intérêt du présent et celui des choses passées . Ce qui est certain, c’est que le mythe du Progrès est bien la maladie spécifique de notre espèce animale. Véritable « boîte de Pandore » contenant toutes les illusions grosses de tous les dangers, si on ne sait pas le tempérer par la sagesse immémoriale de la tradition. J’ai commencé ma carrière en faisant une analyse critique du « progrès et du service public ». Je renvoie le lecteur curieux à ces pages intempestives[1].
Je voulais indiquer par là que le progressisme est, potentiellement, destructeur. Seule la « progressivité », celle de l’enracinement dynamique, est à même de nous aider à comprendre ce que l’on vit au présent. Chose fort simple que les « progressistes » de tous poils s’emploient, avec constance, à dénier. La pensée empirique, celle du bon sens, celle de la sagesse populaire, le sait bien : ce qui doit naître, ce qui advient à une époque donnée, mûrit lentement à l’époque précédente.
Ainsi, à l’image de Janus aux deux visages, l’esprit lucide, purgé des illusions, sait regarder un monde en train de finir, ce qui permet de repérer les caractéristiques essentielles de celui qui émerge. Et laissant la langue de bois à ses vaines incantations, il faut oser dire que la vielle formule alchimique est toujours d’actualité : « meurs et renais ». Ce qui permet de faire ressortir qu’il est des noyaux archétypiques qui sont irréfragables.
C’est ainsi que contre le « correctness » ambiant, il convient de rappeler la vraie actualité : celle de la postmodernité. J’aurais presque tendance à dire, d’une manière quelque peu paradoxale, le retour de la postmodernité. Tant celle-ci réinvestit, ré-actualise, les caractéristiques essentielles de la pré-modernité. Tribalisme, nomadisme, hédonisme, voilà bien ce qui est en train de revenir de nos jours.
Il ya dans l’intelligentsia une crainte à aborder de front cela. Ainsi on va parler de modernité seconde, d’hypermodernité, de surmodernité, de modernité avancée et autres fredaines de la même eau. Et ce afin de tenter de sauver un monde déshabité. Car c’est bien de cela dont il s’agit : l’inconscient collectif ne se reconnaît plus dans les grandes valeurs ayant constitué l’époque moderne. Un cycle commencé avec le XVIIe siècle s’achève, et on ne sait pas le reconnaître.
L’histoire de la pensée, tout comme l’Histoire tout court, est ponctuée de longs assoupissements et de réveils non moins brusques. Nous sommes en vue de ces moments charnières où la socialité de base retrouve une indéniable effervescence, alors que les élites se réveillent difficilement de leur long sommeil dogmatique. C’est d’ailleurs celui-ci qui est cause et effet de cette mentalité diffuse du ressentiment caractérisant les élites contemporaines.
Et c’est parce qu’ils sont centrés sur eux-mêmes que les protagonistes de l’opinion « publiée » ( les élites) sont bien incapables d’être attentifs aux forces volcaniques souterraines remuant, en profondeur, le corps social, et qui à l’occasion ne manquent pas de percer la croûte terrestre. Pour cela il faut savoir se purger de ses certitudes, s’éveiller à ce qui est Réel ou, pour le dire à la manière imagée de Platon (République, 521, C) : « retourner l’huître ». C’est-à-dire faire une révolution du regard sachant repérer le lieu où les mots, les actions et les choses sont en concordance opportune. C’est-à-dire non pas une justice, a priori, quelque peu abstraite et en tout cas moraliste, mais une justesse a posteriori permettant de s’accorder, tant bien que mal, au monde tel qu’il est, et aux autres pour ce qu’ils sont.
J’ai nommé la figure du dieu Janus, esprit des portes et des seuils, qui savait regarder en arrière et en avant dans le même temps. Il existe un constant va et vient, dans la triade temporelle, entre le passé, le présent et l’avenir. C’est ce qui faisait dire au tonitruant Léon Bloy dans un même mouvement que « tout est admirable » et que le « prophète est celui qui se souvient de l’avenir. »
En effet, c’est en ayant cette souvenance de ce qui est enraciné que l’on peut apprécier le présent comme gage de ce qui doit advenir dans le futur. Il s’agit là d’une dialogie : « action-rétroaction » dirait Edgar Morin, mettant l’accent sur le fait qu’il faut de tout pour faire un monde. La sagesse populaire le sait bien qui accepte l’ombre comme pendant de la lumière. Et c’est bien cette acception du clair-obscur de l’existence par l’opinion publique qui la rend si insaisissable pour les divers protagonistes de l’opinion « publiée ».
Ainsi au-delà des lieux communs sur La Crise, incantations permettant de ne pas penser, l’on sait bien que la vie en son développement continue d’être ce qu’elle est : « c’est la vie » ! Et à l’encontre des lamentations convenues propres aux commentateurs, il est un argument incontestable, celui du bon sens, c’est-à-dire celui d’une pensée empirique, mais également argument de toute pensée authentique, celui-là même qui, après s’être rétracté, faisait dire à Galilée : « e pur si muove » ! Cela suffit.
En effet, tous les inquisiteurs, de quelque obédience qu’ils soient, s’emploient à sauvegarder leur pouvoir institué : judicatif, normatif. Autrement plus forte est la puissance instituante de la vie courante dont le génie propre repose sur la constante et profonde adaptation aux circonstances ; un ajustement aux bonheurs et malheurs de l’existence ; une accommodation aux aléas de la vie en son développement. Ne peut-on pas parler d’un « situationnisme » populaire ?
Là est, peut-être, ce qui différencie le plus l’opinion publiée et l’opinion publique. Autant celle-là reste obnubilée par l’utopie rationaliste moderne : tout a ses raisons, tout doit être soumis à la raison, autant celle-ci met en jeu ce que j’ai nommé des « utopies interstitielles » : celles où peuvent se nicher tous les possibles de l’existence. C’est-à-dire l’ombre et la lumière, le bien et le mal, le normal et le pathologique. De bons esprits l’ont noté : ainsi J-M Guyau, puis E. Durkheim à la fin du XIXe siècle, l’anomie (ce qui est au-delà, ou à côté de la loi) a aussi une fonction éthique en ce qu’elle conforte le vivre-ensemble.
Je livre cette réflexion au public du Maghreb, et remercie, chaleureusement, tous ceux qui s’emploient à faire connaître ma pensée en ces pays que j’aime tant, et auxquels me lient des liens ancestraux.
Michel Maffesoli
Professeur à la Sorbonne
Institut universitaire de France
Administrateur du CNRS
[1] M. Maffesoli. La Violence totalitaire (1979), ch. III, « Sociogenèse du progrès et du &service public ». rééd. in Après la Modernité ? CNRS éditions, 2008, p. 445.
رسالتي إلى الأخ زارو
باريس 8 .7 . 2013
الأخ الكريم الأستاذ عبد الله زارو
أستاذي العزيز،
لقد أتحفتني مرة بعد مرة بما فيه إمتاع ومؤانسة، ولو أن الظروف منعت الإمتاع فإنها لم تمنع البتة المؤانسة.
وها أنا أستغل أول فرصة سانحة للكتابة إليك للشكر الجزيل مجددا على ما تكرمت به، مع المعذرة على عدم الاستمتاع به بعد؛ فكما يقول مثلنا الشعبي : المليح يبطأ.
وبما أنك شرفتني بأن عرضت ما كتبت في عجالة كتقديم لعملك القيم إلى معلمنا الأستاذ البشير التهالي، فشرفني بما أطرى فيه أكثر مما أستحق، فقد سارعت بقراءة ملاحظاتة القيمة وودت الرد عليها تثمينا لقيمتها الفائقة البلاغة.
لذا أستسمحكم في تقديم شكري الجزيل لمعلمنا وأستاذنا الأكبر وإبلاغه هذا الرد البسيط الذي أوحانيه تعليقه. ولك وله جزيل التقدير والعرفان.
مع خالص المودة ،
ودمتم لنا
ف.ع.
غيض من فيض خاطر
في التعدد والتوزع :
العين الواحدة مختلفة بالأحكام؛ وتلك حالة الوجود المجتمعاتي في تعدد مظاهره، فعين وجوده واحدة ولكنها تختلف بالأحكام التي تنظر إليه كالنظر لعين الشمس، فهي من تلك الصور المتميزة بعضها عن بعض لحقيقة واحدة، إذ الصلة بين المجتمع في قبائله والفرد كالصلة بين الواحد العددي وما ظهر عنه ومنه وفيه من الأْعداد. فكما أن الواحد العددي أوجد الأعداد فكثر مع أحدية ذاته، كذلك أوجد الواحد المجتمعي الكثرة القبلية فتعدد فيها وكثر.
فذلك هو التعدد القبلي، وهو في نظري أكثر وأبلغ من التوزع، وإن كان في التوزع تعدد وكثرة، إلا أن التعدد ليس دائما كثرة كما أن التوزغ ليس دوما تعددا. فليس التوزع بين الفرد والقبيلة إلا بالاعتبار، ذلك لأن القبيلة هي الفرد والفرد هو القبيلة، إذ العين واحدة. وهذا لا ينفي أن لا يكون الفرد قبيلة و القبيلة فردا إذا اكتفينا بالنظر إلى صورة الفرد وهيأته لا عينه وجوهره، فهو ذاته ولا شيء غير ذاته كما هو من القبيلة ولا شيء خارج القبيلة؛ وبالتالي فهو هو لا هو كما هي هو لا هو.
ولا شك أن هذا النمط من الفكر عند مافيزولي يذكرنا بفكر غير غريب عنا كما نظر له الشيخ الأكبر ابن عربي في وحدة الوجود.
في الحداثة التراجعية :
ولعل أستاذنا لا يعترض علي إذا قلت أن مثل هذا التوجه الفكري من الثراء لكبير في فكرنا وتقاسيم نمطنا في الحياة إذ هي مبنية على روح الاختلاف من خلال مبدأ المناقضة والمعارضة، وذلك من الثابت في بلاغة لغتنا من خلال الكلمات الأضداد مثلا. وليس بالمستغرب عندها أن يصف صاحب فصوص الحكم الحق بالأضداد وكذلك عرّفه. فأليس بالإمكان تعريف الإنسان ما بعد الحداثي، وهو حقيقة الوجود المجتمعاتي اليوم، كما كان أبو سعيد الخراز يعرف الحق، أي الله، بأنه لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها؟ وهذا مما جعلني أضيف إلى مصطلح ما بعد الحداثة مصطلحا خاصا بالحضارة العربية الإسلامية سميته الحداثة التراجعية لكونها حداثة ماقبل الحداثة Rétromodernité
نعم، ليس من المستغرب أن يكون الأمر حيرة في حيرة، واحد في كثرة في تلك الكثرة التي مردها إلى الواحد، إذ اعتدنا تحت ضل الحداثة بالحقيقة واحدة منفردة لا تقبل فيها الأضداد إلا باجتماعها وانصهارها في حقيقة واحدة، بينما هي حقيقة واحدة لا تُعرف إلا بقبولها الأضداد. فالأمر ولا شك حيرة في حيرة، ولكنها حيرة الجهال، ساكني مغارة الفيلسوف، يغترون بالظلال ولا يرون نور الشمس خارج ظلماتهم المادية والروحية. فالنور ليس إلا للواقفين على سر الحقيقة، الساعين إليها دون هوادة، فلا وقوف إلا سيرا ولا سير بدون وقوف وإن اقتضى التوقف للتثبت من الطريق والتعرف على معالمه. ذلك أن الحيرة لا تنعدم، إذ العلم هو الجهل بحقيقة الأشياء جملة وتفصيلا، وتلك حيرتهم، أي في تنقلهم الدائم اللامنتهي نحو الحق في عالم الصور.
في المتخيل والمتصور :
وعالم الصور هو عالم الأعراض، إذ لا يعدو أن تكون تجليات الحق إلا أعراض الجوهر الذي هو هذا الأفق الرحب السرمدي. وهنا أيضا نجدد اللقاء بابن عربي في نظريته القائلة بالتنزيه والتشبيه في نفس الوقت للعين الوجودية الواحدة؛ فالحقيقة في علم الإجتماع الفهيم هي كوكبية une constellation de vérités، كمجموعة النجوم في الأفق، فلا نجم يعوض نجما في الكوكبة، ولا إضاءة هي خاصة وبحق من النور، بما أن أشد النجوم نورا هي تلك التي غدت ظلاما في حين وصول النور إلينا.
فكما العلم بالسلب هو العلم بالله عند شيخ المتصوفة، فالسلب في العلم، أو الأخذ بالسلب فيه، هو لا محالة من العلم بغير سلب لأي من مكوناته المنظورة والخفية، الحالية والآتية. واعتمادا على ما صح عن باشلار في وقف صحة الحقيقة العلمية على حدوث ما يأتي يناقض الحقيقة القائمة من حادث جدلي Fait polémique، ليس للسلب معنى بلا إيجاب، إذ الإيجاب هو السلب والسلب لهو الإيجاب في تكاملهما رغم تضادهما، فهما صفتان حقيقيتان لا يمكن الاكتفاء بإحداهما دون الأخرى. لذلك أنا أكتب الكلمة بالفرنسية بفاصل يدل على ما في الحقيقة من غائية Vers-ité.
وفكرة التشبيه المنزه والتنزيه المشبه هذه لتتطابق دون تجانس، وتجانس دون تطابق، مع عبارتي المتخيل والمتصور؛ وقد أعجبتني مراجعة أستاذنا فيها، بما أن المتخيل هو من المشبه، والمتصور من المنزه، إذا عمدنا إلى المعنى الخاص بالصورة كمثل ومثال أو إيقونة. وكما أن العقل وحده، وهو اليوم يستمد حقيقته من المتخيل الذي كان يرفضه، راميا به بين الهواجس والأوهام، لا يمكن له في سيكولوجية المداعبة أن يستقل بمعرفته، إذ العقل بها حساس أو حسي حسب رأيي، والوهم وحده - وهو ما يعطي التشبيه أو المتصور - لا يصور على الحقيقة المجردة مما يختلج فينا، فهما حقيقتان لا يمكن الاكتفاء بإحداهما دون الأخرى.
ولعله من المفيد الاستشهاد هنا بفقرة لابن عربي من فصوص الحكم نلخص بها مع شيء من التصرف مقولتنا. يقول الشيخ الأكبر في الفص الإلياسي : «فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته الحقيقة (أو الله في كلام ابن عربي) على التنزيه لا التشبيه؛ وإذا أعطاه المتخيل (الله في كلام ابن عربي) المعرفة بالتجلي، كملت معرفته بالحقيقة فخيل وتخيل في موضع وصور وتصور في موضع (في كلام ابن عربي : كملت معرفته بالله فنزه في موضع وشبه في موضع)، ورأى سريان الحق بالوجود في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا وترى عين الحق عينها. وهذه هي المعرفة التامة الكاملة التي جاء بها علم الاجتماع الفهيم وخاصة سوسيولوجيا المداعبة (في كلام ابن عربي : التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله)، وحكمت أيضا بهذه المعرفة الأوهام كلها من الموروث الحداثي (وهذه طبعا زيادة منا)»
في العودة إلى الأرض :
أما العودة إلى الأرض، فلا شك أن ما أتي به أستاذنا الجليل لا تعقيب على وجاهته وخاصة في تأصله. إلا أنى أود التدقيق لما قلت حيث أردت الاشارة إلى أن الأرضية البشرية أو الأرض هي للإنسان ووجوده على البسيطة، فالعودة إليها ضرورة كالروح أو النفس للبدن؛ فكما لا بدن بلا روح، فلا بشرية بدون أدم وأرض.
إلا أن ذلك، رغم قوة الجاذبية به، لا يمنع خروج الروح، لا في الموت الكبير فقط، بل وأيضا بالموت الصغير. فالعودة إلى الأرض من الأمور المفروض منها، وهي من باب العقل العادي؛ أما العقل الحسي، فهو يقتضي البعد والابتعاد عنها، حتى وإن كان ذلك في لمحات وومضات من نوع ما نعرفه عند المتصوفة. فلعل الجذب الصوفي والانخطاف Extase هو من ذلك الوجد اللاأرضي كانخطاف عكسي أو الذي قصدته من التأصل أو التجوف دون العودة للأرض، مع الرمز إلى الجوف البشري وما يحمله من عودة إلى الأصل.
ولمافيزولي من الاستفاضة في الموضوع ما يغنى عن التذكير به؛ وأستاذنا عبد الله لهو أدرى به من غيره. فأنا أقصد هنا ما يمكن لي تسميته بالفرنسية Instase في تصرف بابتكار يحاكي شغف مافيزولي بمجاز الأضداد أو oxymoron
وفي الأرض أيضا خفض من تعالي الروح وتساميها على ما في المادة من سقطة وتساقط، فلو نحن حذفنا الألف، وجدنا معنى الرض، وفيه ما يوحي بسحق ما في البدن من روحانية كما يبين ذلك المعنى الفرنسي المستعمل في الميدان الإداري أوالعسكري، بينما نحن ننشد العلو من علم اجتماعنا، فالروح في عليين لا في سجين؛ وقد علمنا أن هذه الكلمة الأخيرة توحي أيضا، علاوة على السجن الذي يمنع الروح من حريتها، إلى الجن بما أن السين من الأحرف الزوائد. والجن طبعا هنا بالمعنى المعروف إضافة لمعنى الستر والوقاية. فأليس في التجوف عودة إلى كل مستتر في البشر، منه ما هو من المادة، ومنه ما هو من الروح؟ ولا أرضية في ذلك إلا إذا كانت جوفية، سواء بالمعنى المتعارف عليه من الأحشاء، أو بالمعنى الثاني الذي نجده مع تحريك الحرفين الأولين للكلمة، إذ الجَوَف هو السعة والمدى والاتساع. وكل ذلك مما يرنو إليه فكر مافيزولي الذي يجعلني أعرفه بأنه أول عالمي الإجتماع المتصوفة، تعقيبا لما قيل في سوسيولوجيته من أنها بحق علم إجتماع روحاني.
في اتساع العربية اللغوي :
ولا غرو، هذا مما يعود بنا إلى حضارتنا ولغتنا العربية وبلاغتها، وبخاصة للإتساع اللغوي بها كخاصية من خصائص لساننا. وأكيد أن أستاذنا يوافقني الرأى في مدى هذا الاتساع يدلل، لا على مرونة اللغة العربية فقط، بل وأيضا على الحرية التي للفرد المتكلم بلغة الضاد، مما يجعله فردا متفردا وفردا فريدا وفردا لا متفردا ولا فريدا. وكل ذلك مما يؤكد الدور الكبار الذي يلعبه المتكلم بالعربية، إذ هو طبعا المصدر للكلام، ولكنه أيضا المعيار الأساس على صحة ما يقول قبل الكلام نفسه، إذ يشارك في تحقيقه بمتخيله ومتصوره؛ فهو بين البنيتين السطحية والتحتية، كما نرى ذلك في الاضمار والاختصار والاستبطان والتضمين، وغيرها من البدائع اللغوية العربية
فأمثلة كتلك التي تخص استعمال المذكر عوض المؤنث والجمع عوض المفرد، إلخ، لهي اليوم من الدلائل على مابعد حداثية العربية اليوم؛ ونحن نعلم ما كان من قوة للاتساع عند المعتزلة في تأويلها الاستعاري للنص القرآني وإعجازه، مما مكن البعض من القول أن كلا من اللغة والكتاب الموحى به ينتميان إلى العالم المخلوق بقدر ما ينتميان إلى مجال المتكلم الانساني؛ أفلسنا حيال ما يجانس مقولة علم الاجتماع الفهيم من مفارقة ماثلة transcendance immanente ؟
فرحات عثمان