تعقيبا على العملية الإرهابية بتونس : ضرورة غلق باب الجهاد الأصغر للتصدي للإرهاب الذهني
ليس الإرهاب اليوم ما نراه فقط من ضحايا أبرياء ودماء أهدرت باسم الإسلام، بل هو أساسا ما لا نراه؛ إذ تسبق كل عملية إرهابية عمليات غسل دماغ.
إن االإرهاب أولا وقبل كل شيء ذهني، هذا الفكر الفاسد والمفهوم الخاطيء للدين الذي لا نعيره اهتماما كبيرا اليوم بينما لا مناص للتعرض له ومقاومته في أسرع الآجال إذا أردنا حقا مقاومة للإرهاب والتوصل للحد منه ثم القضاء عليه.
الإرهاب الذهني :
لقد رأينا في عملية سوسة الأخيرة كيف أمكن لشاب في الثالثة والعشرين من العمر ومن المثقفين أن يعبث بأرواح أبرياء بكل سهولة، لقد كان وكأنه في لعبة لا فرق عنده فيها مع اللهو العادي في مثل سنه، رغم أنها تهدر دماء غيره من أبرياء ليس ذنبهم إلا أنهم أحبوا بلدنا فقدموا إليه رغم المخاطر المحدقة به وبحياتهم.
ما الذي دفع بفتى متعلم مثله إلى كراهة غيره إلى حد قتله، إذا لم يكن ذهنه الفاسد وقد أعد لذلك من طرف زبانية موت في هيأة شيوخ علم، وليسوا إلا شياطين الجهالة الجهلاء والفساد الأعظم؟
إن الإرهابي التونسي ما كان ليقدم على فعلته الشنيعة تلك إذا لم تكن يشجعه في ذلك فكر إرهابي متغلغل لا في النفوس والأدمغة فقط، بل وأيضا في التصرفات اليومية التي تشين فهم ديننا بالانحراف به عن سماحته وقبوله بالغيرية والحرية البشرية تامة لا منقوصة.
فرغم ما أتى به الدستور الجديد بتونس من حقوق، ورغم أن البلاد في حالة استنفار قصوى ضد الإهاب، رأينا الشرط تتعقب المفطرين علنا من الناس ومن يلبس تبانا قصيرا ومن يسكر، بينما كلهم سلم لغيرهم، عوض أن تتبع من يحمل الرشاش ويمد يده للإساءة بغيره !
وكل هذا باسم القانون لأنه لم يتم بعد تنقيح كل النصوص المشينة الني تعتدي على الحريات فتخلق في الأذهان هذا الإرهاب المعنوي الذي لا ينفك يغذي الإرهاب المادي. فعملية سوسة ليست إلا تبعة منطقية للخبطة القيمية التي نعيشها بتونس وسائر البلاد العربية المسلمة في فهمنا لديننا إذ نجعل منه دين النقمة بينما ليس هو إلا دين الرحمة.
اللخبطة القيمية :
إننا اليوم في قعر الانحلال الأخلاقي الذي يتمعش منه دعاة التزمت، إلا أنه لا يتمثل في ما يعتقدون مما يسمى غلطا رذيلة وعهرا ودعارة، بل هو في هذه النظرة الفاحشة للأمور التي تجعل من الحرية الشخصية دعارة ومن أحاسيس الحب رذيلة ومن نقاء السريرة وحسن النية عهرا وفسادا.
فمتى كان لإفطار علنا في رمضان فسادا وقد أكد دين الإسلام على حرية العبد وتمام حقه في الصوم وعدم الصوم بأن مكنه من ذلك بإيجاد الكفارات والذرائع الشرعية؟
ومتي كان لمؤمن الحلول محل الله لمحاسبة غيره ومعاقبته، وليس ذلك إلا لله وحده؛ فهل في الإسلام كهنة وأحباركنيسة؟ فما هذه الأصنام المعنوية التي نقيمها في الدين القيم مما يجعل حمل رشاش لقتل أبرياء أهون من لبس تبان قصير أو حب مثلي أو الإفطار علنا في رمضان؟
إن مقاومة التزمت هو أساس التصدي للإرهاب، إذ الإرهاب اليوم في الأذهان، ولا مجال لمقاومة غسل أذهان الشباب ممن يستغلهم محترفو الإرهاب من الشيوخ المتزمتين إلا بتغيير القوانين الوضعية وغسلها من كل ما شابها من اعتداء صارخ على الحقوق والحريات حتى تساهم في تنقية الأدمغة من كل ما يتغذى به الإرهاب من فساد.
لقد كتب سيف الدين الرزقي، الإرهابي التونسي الأخير، هذه الضحية الجديدة لشيوخ السلفية، على صفحته الخاصة ما يلي : إذا كان حب الجهاد جريمة، فليشهد العالم إني مجرم !
هذا هو الإرهاب الذهني وهذه هي اللخبطة القيمة التي يتعين علينا التصدي لهما بسرعة قبل أن تسقط ضحايا أخر، ولعلها ستسقط للأسف لأن الصراع من أجل المباديء السامية يقتضي مثل العديد من الضحايا الأبرياء؛ فتلك سنة الله في بشره عندما تتهافت قراءتهم لدين الحب والسلام جاعلة منه دين الحقد والحرب !
إغلاق باب الجهاد الأصغر :
إن الإسلام اجتهاد مستمر ولا مناص لتجديد فهمنا له وإلا تحجر وغدا ظلاميا كما هو الحال اليوم. فالإسلام ثورة عقلية مستدامة وإلا ليس هو بدين القيمة، خاتم الأديان.
نحن اليوم نرى كيف يستغل شيوخ الإرهاب نظرتنا الخاطئة لديننا وفهمنا المغلوط لسماحته لإرسال أحداث يفسدون في الأرض باسم الإصلاح ومقاومة المنكر بينما لا تطالهم هم يد القانون رغم مسؤوليتهم في ما يحدث.
إن الإرهابي يهب نفسه إلى ما يعتقده أفضل الجهاد في الإسلام بينما هو أقله قيمة بما أنه جهادا أصغر، بل أصيغرا بما أن زمانه ولى وانقضى، إذ أن الجهاد المسلح في الإسلام الحقيقي انتهى مع انتهاء فترة الهجرة. فهل نهاجر اليوم إلى المدينة ؟
لذا، من أوكد الواجبات اليوم على الساسة ورجال الدين أن يعلنوها صراحة في موقف جريء تقتضيه خدمة الإسلام الحق، وهو أن الجهاد الوحيد في الإسلام بعد أن قامت دولته وتمتن في القلوب هو الجهاد الأكبر، أي جهاد النفس في كل نزواتها وخاصة تلك التي تعتدي على الآخر، أيا كان وأي تصرف أتى، وليس الجهاد الأصغر، أي مد اليد على ذلك الآخر المختلف، إلا من الإفساد في الأرض.
هذا ما يجب فعله بأقصى سرعة لتجفيف منابع المد الداعشي الذي يجعل من شبيبة بريئة حُرمت من حقها في الحياة والتمتع بها، كأن تتنقل بحرية تامة في الأرض وأن تحب من يهواه قلبها، ضحية لشيوخ دمويين يحولونهم إلى إرهابيين يتوهمون قتلهم لغيرهم من التقوى والورع بينا هو من الحرابة والإفساد في الأرض.
إن الإرهابي الحقيقي اليوم ليس ذاك الشاب في تبان الذي قتل غيره على ساحل البحر وسارعت قوات الأمن إلى قتله فلا ينكشف بذلك أمر من أرسله! إن الإرهابي الحقيقي هو كل من يختفي وراءه ممن يلبس البدلة برباط عنق أو بلا رباط وممن يدعي خدمة الإسلام وهو يقوض صرحه من الأساس.
هؤلاء هم المجرمون، ولا مجال إلا للتصدي لهم بكل سرعة، ولا يكون ذلك إلا بالجرأة في إعلان انتهاء صلوحية الجهاد الأكبر وإغلاق بابه، لأنه لا جهاد في الإسلام الصحيح إلا جهاد النفس، الجهاد الأكبر الذي يحمل المسلم على السهر على تزكية نفسه وغض النظر عن مساؤيء غيره والقبول به كما هو في اختلافه، لأن الحنيفية المسلمة تمجد الحرية البشرية والغيرية.
ومن قتل نفسا أيا كانت مساوؤها المزعومة قتل البشرية جمعاء. والقتل المعنوي أشد من القتل المادي لأنه يخلق القاتل ويعيد خلقه على الدوام!
تنقية قوانينين من كل ما ينمّي كراهة الآخر المختلف :
لا بد لنا اليوم أن ننقي بجدية في غربلة قاسية تصرفاتنا اليومية الرافضة للآخر المختلف، القامعة لحرياته. وهذا يقتضي بالإساس إبطال كل ما رسب في ديننا وثبت في قوانينينا من نصوص فاحشة في ميدان الحريات الشخصية.
لا بد إذن من إبطال كل ما يمس بالحريات الفردية ،كالإفطار العلني في رمضان و التعري بلبس تبان قصير أو تنورة، و الحب المثلي، واستهلاك ذاك النوع من المخدرات البسيطة كالتكروري التي ثبت علميا أنه أقل مضرة من السجائر.
فتلك من النصوص القانونية التي تزرع الإرهاب المعنوي في العقول فتنمي الإرهاب المادي بأن تجعل من هذه التصرفات العادية التي هي حقوق المؤمن الثابتة خبثا وععرا ورذيلة وكفرا.
فمثل هذه التعابير يعددها الخبر العاجل الذي نشره الإرهابيون بعد ما سمّوه غزوة سوسة النوعية. ذلك لأن أمخاخ العديد منا في فهمها الخاطيء للدين أصبحت مركز دعارة وخبث، وهي تستمد قوتها في ذلك من قوانين فاسدة لا مجال للإبقاء عليها بعد اليوم. فلا بد من إبطالها حالا لخلق الهزة النفسية الضرورية حتى تتغير العقول وينكشف الإرهابي الحقيقي من بين شيوخ التزمت الذي لا تطالهم اليوم يد القانون للتقية التي يستعملونها والنصرة التي لهم ممن لا يعرف الإسلام أيو يريد له الشر ممن يدعي صداقتنا من الغربيين.
إن الدين براء مما يفعل هؤلاء ولا بد من التصدي لهم وإجبارهم على الكف عن تشويه الدين والتغرير بالشبيبة الضالة؛ ولا يمكن ذلك بداية إلا بتغيير قوانينا. فمقاومة الإرهاب اليوم ليس في سن قانون جديد يقاوم الإرهاب مع الإبقاء على القوانين التي تشجع عليه، بل هي أولا وقبل كل شيء في إبطال كل النصوص القديمة الجائرة حتي تتوضح الأمور فيتحمل كل مسؤول مسؤلياته، مادية كانت أو معنوية.
أمثلة مما يجب فعله دون أي تأخير :
حتى يكون كلامنا واضحا، لا لبس فيه، فيكون في ردنا إحياء لذاكرة من قضى من الأبرياء في فاجعة القنطاوي بسوسة، لنذكر هنا بالبعض مما على السلط بتونس فعله حالا لتبين صدق نيتها في التصدي للإرهاب الفكري والذهني وغلق المنافذ القانونينة التي تغذي الإرهاب المادي بتمكين الكبار من التغرير بالصغار.
1 - رفع كل النصوص المانعة للإفطار في رمضان :
أولا، رفع كل النصوص التي أكل عليها الدهر وشرب مما يمنع المفطر من الإفطار علنا والمقاهي والمطاعم من فتح أبوابها في رابعة النهار. إن هذا من أهم القرارات الصائبة اليوم ونحن لا زلنا في رمضان إذ يكون لها الوقع الكبار على الأذهان إذ هي أفضل رد على الاستهتار بحريات الناس وحقوفهم، هذا الاستهتار الذي أدى ويؤدي إلى إهدار دم بعضهم دون أي ذنب.
2 - إبطال النصوص المجحفة المتعلقة بالآداب العامة :
ثانيا، إبطال النصوص المجحفة التي باسم احترام الآداب العامة تمنع الناس من حقوقها وحرياتها. فالآداب العامة هي في حرية الفرد في التصرف كما يراه هو ما دام لا يمد يده على غيره ولا يعتدي على حرية غيره الخاصة. فحق النقاب مثلا يقتضي ضرورة حق التعري، إذ لا إثم في التعري في الإسلام وقد حام حول الكعبة عراة مسلمو الحج الإسلامي الأول حسب الطريفة العربية التليدة. ذلك لأن إثم التعري ليس من الإسلام في شيء بما أنه مما رسب من الإسرائيليات في دين محمد.
3 - إبطال تجريم تعاطي التكروري :
ثالثا، إبطال كل تجريم لتعاطي التكروري أو الزطلة، هذ المخدر الذي ثبت أن مضرته أقل بكثير من مضرة السجائر مع قسوة القانون الحالي الذي ليس هدفه إلا الزج بالأبرياء في السجون وهي ملأى بالمجرمين. فهل أفضل من مثل هذه الطريقة للتشجيع على الانحراف وخلق المجرمين والإرهابيين؟
4 - إبطال تجريم المثلية :
أخيرا وليس بآخر، إبطال تجريم المثلية، إذ الفصل الحالي من القانون الجنائي، علاوة على بشاعته ونقضه للدستور، يظلم أبرياء لم يقترفوا أي ذنب سوى الأخذ بما فيهم من طبيعة وفطرة. ثم هو يشجع من يُظلم هكذا بلا أي ذنب على الانحراف نكاية بمن يظلمه. وقد أثبتت الدراسات أن هناك العديد من الإرهابيين ممن لهم عقد جنسية أو ممن حرموا من تعاطي الجنس بما فيه المثلي.
هذا، وأذكر هنا أهل القرار بتونس أني كنت عرضت على نواب مجلس الشعب وعلى المسؤولين الكبار نص قانون في هذا الغرض؛ فليبادروا بالأخذ به والتصويت عليه بأقصى سرهة للتدليل على حسن سريرتهم وصدقهم في العمل على التصدي على الإرهاب. وهوذا رابط نص مشروع القانون المعروض كما نُشر على مدونتي :
كل ما سبق ليس إلا من باب المداواة بما كان هو الداء، وهو غيض من فيض ما يتحتم الإتيان به حالا إذا صدقت النية وحسنت العزيمة للتصدي للإرهاب، إذ بمثل هذه الإجراءات نوضح الأمور ونجبر كل إرهابي بالبدلة، ممن يتستر في صفوف النخبة السياسية والدينية، على الانكشاف.
فهل حكوتنا اليوم قادرة على مثل هذه التحدي؟ إنه الحتمية التي لا متاص منها والتي تقتضيها لا سلامة الوطن فقط بل وخاصة دماء هؤلاء الأبرياء الذي قضوا على شاطيء سوسة!
ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد !
نشرت على موقع أخبر.كم