رؤيا في الانتخابات من الزاوية الفقهية
عندما يجرؤ أحد المترشحين للدور الثاني للرئاسية فيوظف الدين في قراءة مغلوطة لفهم أخرق للسياسة حتى يحصل خداعا ونفاقا على المزيد من الأصوات، كان من المتحتم أن تطرح مسألة الانتخابات من الزاوية الفقهية.
لذلك نرى الشيخ فريد الباجي يتعرض للموضوع، وهو من المسلمين الذين تعتز بهم تونس إذ يجمع صفاء النية وسماحة الإيمان وتفتح العقيدة مع حسن الحس السياسي ورقة الإحساس الانساني إضافة إلى إرهاف الوازع الأخلاقي وسمو السريرة. وكل هذ ولا شك مما يميز الإسلام الحقيقي، لا ذلك الذي يدعيه البعض لخدمة غايات حزبية تطمس معالم الإسلام فلا تزكيها.
ماذا يقول الشيخ الصوفي ممثلا خير تمثيل العقيدة الإسلامية في تونس التي ركن ركائزها الأساسية يبقى تصوف الجنيد السالك؟
أولا أن تعارض المفسدات يضطر المؤمن إلى اجتناب الأعظم لاختيارالأخف. ذلك لأن الضرر الأشد لا بد أن يُزال بالضرر الأخف، إذ لا بد للمسلم من اختيار أخف الضررين في حالة وجوب اختيار أحدهما.
هذه هي القواعد الفقهية التي يذكّر بها الشيخ الجليل، وهي في نفس الوقت منطقية وعقلية لاختيار المرشح الأنسب لرئاسة البلاد. فلنستعرضها واحدة واحدة.
اجتناب أعظم المفاسد باختيار أخفها
إن المترشح للرئاسة السيد المنصف المرزوقي أثبت مدة تواجده بقرطاج عقم سياسته في تغيير البلاد. بل تتالت غلطاته الفاحشة وقراراته غير الصائبة، مما عكر صفو البلاد وعلاقاته مع بلدان العالم. لذلك، وجوده على رأس الدولة يمثل مفسدة لا بد من درئها حتى بمفسدة أقل عظمة.
فهبنا نسلم بأن منافسه السيد الباجي قائد السبسي هو أيضا مفسدة، إنها لأقل ضررا على تونس لما له من تجربة وحنكة واحترام عالمي. ولا شك أن سنه هو الدعامة لمثل هذ الضرر الضئيل لما نعرفه لدى الشيوخ من حكمة وقلة نزوات وزهد في أوساخ الدنيا بما أنهم عركوها ففهموها على حقيقتها.
إزالة الضرر الأشد بالأخف
إن ضرر بقاء المنصف المرزوقي بقرطاج لهو أشد من صعود الباجي قائد السبسي لسدة الحكم. فعامل السن المذكور سابقا، إضافة لما يوفره لصاحبه من حكمة وتجربة، يجعل إمكانية تخليه عن الحكم قبل الخمس سنوات المفروضة من قبيل الممكن، بينما لا مناص من بقاء الأقل سنا بالحكم كل تلك المدة، خاصة مع ما عرفناه عنه من حب للرياسة وتشبث بالحكم.
وهذا، ولا محالة، يجعل من بقاء المنصف المرزوقي رئيسا لتونس الضرر الأشد، إضافة إلى ما لم يفتأ عن إتيانه من أخطاء قاتلة نتيجة لنظرته المتعجرفة للأمور وفهمه الخاطيء للدين.
الخيار يقع دوما بين أهون الضررين
طبعا، هناك من لا يرى في السبسي إلا ماضيه، فيقول بأن نجاحه هو العودة المؤكدة للنظام القديم؛ وليس الحال كذلك، إذ مثل هذه الدعوى من المغالطات الفظيعة. فالديكتاتورية انتهت وولى زمنها، فليست هي متواجدة إلا في ذهن من يريد أن يتمعش منها كما فعل طيلة السنين الماضية.
إن تونس اليوم لها مؤسسات ودستور ولها مجتمع مدني وشعب واع وصحافة حرة؛ وهذا يمنع من عودة الاستبداد. كل ما في الأمر إذن هو عودة كفاءات عملت في ظل النظام القديم دون أن تتشوه بما كان يميزه من أوساخ، فهل نحرم البلد منها وهو بأشد الحاجة لكل الكفاءات، خاصة ومن يرفض عودتها لم يكن بوسعه تعويضها كما يجب؟
وطبعا، هذا لا يعجب من يريد البقاء بالحكم اليوم حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحة تونس خدمة لأغراض في نفسه ومصالح لا تتجاوز شخصه إلا إلى مطامع من وراءه؛ وهذه حال المرشح المنصف المروزقي.
إن العديد من أنصاره حين يدّعون أن ليس له إلا أخطاء وأن غريمه له جرائم يخطئون ثلاث مرات. الأولى عندما لا يعتبرون بعواقب أخطائه التي هي أعظم مما يعيبونه على خصمه؛ والثانية، بتغليب ما مضى على ما هو آني لا يزال متواصلا؛ وأما الثالثة، فعندما يمنعون من أخطأ - ولعله أجرم - من حقه في تزكية نفسه والتغير إذ هذا مما يقره ديننا، بل ويحث عليه، فهل أعظم من جرم الحكم على من أخطأ بدوام الخطأ ومنعه مما يمنحه له الله من حق التكفير مثلا؟ إن البلاد تغيرت، فكيف لا تتغير عبادها من السيء إلى الأحسن؟
كل هذا يبين بيانا لا مرية فيه أن الخيار الأخلاقي الأفضل لمن يريد التشبث بدينه ورؤية السياسة من زوايته هو التصويت لأخف الضررين، أي للموشح قائد السبسي.