لا
إسلام بدون سلام!
إنما
سمّي المسلم مسلما بخضوع جوارحه لطاعة
الله، فمعنى الإسلام هو إسلام الوجه لله،
أي التذلل لطاعته والإذعان لأمره.
ذلك
لأن أصل الإسلام هو الإستسلام، لأن من
استسلمتَ لأمره هو من خضعتَ لأمره.
فالإسلام
هو إسلام الإنسان نفسه كلها إلى خالقه،
وفي هذا الإسلام تسليم من العبد لمشيئة
الله وإيمان بأن مصيره لا يحتمه إلا ماشاءت
المقادير.
ولئن
كان العبد كذلك في استسلامه لله وخضوعه
لمشيئته، فلأنه حر في ذلك الإستسلام، لا
يقر به لغير الله، ولكن يقر به بكل حرية
وتمام الإرادة وإلا لم يكن استسلاما لأنه
كان عن كره أو تحت ضغط أو قوة.
لذا،
فالإسلام أولا وقبل كل شيء سلام روحي
ومعنوي ومادي، فلا إسلام دون سلام!
الإسلام
سلام روحي :
إن
قوة الإسلام لهي في ذلك السلام الروحي
الذي يؤتيه للمؤمن، فلا يهاب شيئا لمعرفته
أنه على السبيل السوي.
وهذا
السلام الروحي يجده المؤمن في مناجاته
لله وفي تصرفه مع أخيه المسلم وغير المسلم
حسب الأخلاق الإسلامية السنية، فلا ترى
منه إلا المثل الطيب والخلق الحسن.
ذلك
لأنه لا مكان لأي سلام روحي لمن أخذ
بالمظاهر فتظاهر في إيمانه وأظهره مرائيا
لا محتسبا لله أعماله؛ أو لمن ساءته أخلاق
غيره فصرفته عن أخلاقه ودفعت به، بدعوى
الدفاع عن الأخلاق الحميدة، إلى تجاهل
ما وجب منه من تصرف مثالي وحرص على عدم
تجاوز دوره في تقديم المثل الطيب وابتغاء
الحسنى.
فالله
يؤكد على المؤمن الحق أن يتجاهل ما يصدر
من تصرفات خرقاء عمن ساء خلقه، سواء أكان
ذلك منه لامتحان هؤلاء أو لامتحان المؤمن
نفسه في مدى صبره على السيئة ومداراته
لها بالحسنى، ولا شيء غير الحسنى.
إن
السلام الروحي في الدستور الذي نكتبه
ليصير القدوة المثلى للأجيال المسلمة
الحالية وكل الأجيال القادمة، تونسية
كانت أو عربية مسلمة أو حتى غير عربية
وغير مسلمة، يكون بالتنصيص فيه على كل ما
من شأنه أن يضمن للمخلوق الطمأنينة في
قدرته على الحصول على رحمة الله الواسعة
أيا كان ذنبه ما دام يصدق في توبته ويعود
إلى محجة الإسلام، وذلك عندما تحصل له
القناعة بعلوية الأخلاق الإسلامية وصدق
رسالة الإسلام السماوية.
وهذا
لا يكون إلا بإقرار مبدأ إلغاء عقوبة
الإعدام، لأن قبض الأرواح هو من خاصيات
الله وحده؛ ثم لأن هذا يضمن للعبد إمكانية
التوبة والتكفير عن ذنبه قبل موته الطبيعي،
إذا قدر له الله ذلك؛ كما يضمن توفر الفرصة،
في حالة خطأ حصل في الحكم على مظلوم، في
إمكانية تفادي الخطأ أو إصلاحه.
وكم
يزخر التاريخ الإنساني بمثل تلك الأخطاء
القضائية التي تودي أحيانا بأرواح
الأبرياء!
الإسلام
سلام معنوي :
والإسلام
أيضا يضمن للمؤمن ذلك السلام المعنوي
الذي بدونه لا يكون إيمانه خالصا لله
ونقيا من الشوائب.
وهذا
السلام المعنوي هو في تلك الحرية التامة
التي يضمنها الإسلام لكل عباد الله لاختيار
الإسلام عن قناعة وتروية في الرأي وتمعن،
لأن دين محمد هو دين عقلاني أولا وقبل كل
شيء. فلا
إيمان في الإسلام دون قناعة حرة بمبادئه
وأحكامه وصدق شريعته، ولا يكون هذا إلا
إذا توفرت الحرية التامة في التمحص في
الدين والتمعن في أحكامه ونقدها أو عدم
الأخذ بها بكل حرية وطمأنينة.
فبما
أن الإسلام قوي، عتيد، فهو لا يضيره في
شيء أن يقوم قائم بنقد أو انتقاد، عن حسن
نىة أو عن سوء نية، لأن ذلك مآله التهافت
لا محالة.
فالإسلام،
كما يحرص على حرية المؤمن وغير المؤمن في
النقد والانتقاد، يحرص على أن لا يقع
المؤمن، في حال عملية إهاجة أو إثارة
متعمدة من طرف أعداء الإسلام، في مثل هذا
الفخ، وذلك بالمحافظة دوما على سماحة
الإسلام التي ضربت بها الأمثال على مر
الأزمن، فكانت أقوي سلاح له في جلب المؤمنين
إليه من كل حدب وصوب.
وقد
رأينا عبر التاريخ كيف استغل أعداء الإسلام
تجاهل المؤمنين لمثل هذا المبدأ الهام
في دينهم فمكنوا لأعدائهم من أن يوقعوا
بينهم الشر والفتنة.
إن
السلام المعنوي في الدستور الذي نكتبه،
حتى يبقى المثال الأعلى على مر الأعوام
والقرون، يكون بالتنصيص فيه على حرية
العبد التامة في اختيار معتقداته وحريته
في الرأي والفكر، وفي التعبير عنهما
بطلاقة؛ وحريته في الحصول على المعلومات
والولوج دون قيد أو شرط إلى عالم المعلوماتية؛
إضافة إلى ضمان حريته الكاملة في تعاطي
جميع الحريات الشخصية بدون مس بحرية الأخذ
بها، بما فيها حرية الإجهاض بالنسبة
للمرأة؛ فلا دخل للإسلام في ضمائر الناس
ولا حد منه لحرياتهم الذاتية !
وطالما
كان كل ذلك بالدستور مضمونا، فيكون تعاطي
هذه الحريات بكل حرية دون خوف أو وجل من
تكفير أو تجريم لتدنيس قداسة أو لعدم
احترام مفهوم معين للدين، كان ذلك هو
الإحترام التام للإسلام والتعلق الحق
بأعز ما فيه.
فاحترام
الدين في احترام مبادئه، وهذه هي حرية
المعتقد وحرية الرأي والفكر والتصرف
الشخصي الذاتي دون رقيب؛ فلا إسلام دون
سلام عقائدي وفكري!
الإسلام
سلام مادي :
والإسلام
أخيرا هو سلام مادي لكل مؤمن، فلا يخاف
على نفسه وروحه وأمواله وأهله في مجتمع
حريات يحترم كل أفراده حرية غيره، فلا
تبتدأ حرية الواحد إلا عند نهاية حرية
الآخر، ولا تمتد حرية الواحد إلى ما يضر
بحرية الآخر.
فالإسلام
سلام في إقرار مجتمع مسالم، لا يُفرض
الإسلام فيه على أحد، إنما تفرضه بدون
عنف أو تعنيف أخلاق المؤمنين به وقدوتهم
الحسنة وأعمالهم الطيبة التي هي أولا
وقبل كل شيء في احترام كل خلق الله بما
فيها الظالمة نفسها، وذلك بالدعوة لها
بالهداية، ولا
شيء آخر سوى إعطاء المثل الحسن والقدوة
المثلى.
ويكون
هذا السلام المادي في الدستور الذي نكتبه،
حتى نفتخر به بين الأمم وتفتخر به الأجيال
القادمة، بإقرار مبادى السماحة والتسامح
في كل شيء، فلا تبجح البتة للمسلم على
أخيه في المواطنة، مسلما كان أو غير مسلم،
بامتلاك حقيقة هي عند الله لا عند غيره.
ويتم
ذلك بإثراء دستورنا وإخصاب نزعته الإنسانية
بالأخذ بكل شيء أكدت تجارب الأمم المتحضرة
فائدته للإنسانية فأصبح من الأخلاقيات
العالمية التي لا يمكن للإسلام تجاهلها
أو ضرب عرض الحائط بها، ومنها المساواة
بين المرأة والرجل في كل الميادين وذلك
في نطاق مساواة المواطنين.
فلا
فرق ولا تفريق بين المواطنين، مسلمين
كانوا أو غير مسلمين، آخذين بأخلاق الإسلام
أو خير آخذين بها بعد، ملتزمين بعبادته
أو غير آبهين بها، لأن سلام الإسلام المادي
هو سلام عام في مجتمع إخاء وفي عالم مسالم
متآخي الأطراف متسامح النزعات والتطلعات.
هذا
هو الإسلام الذي نطمح أن نراه في تونس حتى
تكون بلادنا محجة الطريق الصادق إلى الله،
طريق السلام السمحاء.
والفرصة
متاحة لأعضاء المجلس التأسيسي حتى يبرهنوا
على مدى رهافة حسهم في الأخذ بروح الإسلام
السنية والتدليل على سماحته ورحابة صدره
وذلك بكتابة دستور تحسدنا عليه جميع الأمم
المتحضرة لما يمتاز به من الأخذ بكل ما
حصل من تطور في المجتمعات البشرية مع
تطعيمه بكل ما أتى به ديننا من حسنات تجعل
منه بحق خاتم الأديان لا في عدل تعاليمه
فحسب، بل وأيضا في علميتها وكونيتها.
نشر المقال على موقع نواة