أحبك يا شعب !
أحبك يا شعب! كلمات صادرة من الأعماق قالها ابن الشعب فرحات حشاد الذي مرت منذ بضعة أيام ذكرى اغتياله؛ وها أنا أرددها اليوم مثله مع كل أبناء هذا الشعب الأبي المخلص في مشاطرته مشاعر الحب.
أقولها كما قالها فرحات العظيم وأنا أشاركه الإنتماء إلى نفس مسقط الرأس والإسم، هذا الإسم الذي أعطانيه والدي عربونا لحبه لوطنه وصدق نضاله في سبيله وتحية لجهاد حشاد الأكبر في هذا الميدان.
أقولها في هذا اليوم الذي يخلد اندلاع ثورتك، وفي نفس الوقت يؤرخ لانفتاح الباب رسميا أمام التجربة التونسية الرائدة نحو الحداثة على كل الأصعدة، وبخاصة السياسي والشعائري.
أرفعها إليك كلمة حب صادقة، أيها الشعب، في هذا الميعاد الأثيل الذي ضربته مع التاريخ، وأقولها في الوقت الذي يراهن البعض، حتى ممن أعان على أن تتحرر من قيودك، إلى تكبيل حريتك المستردة بدماء الأبرياء والشهداء وتحجيم طموحاتك اللامحدودة نحو الأفضل.
ولكنهم يتناسون أن مسيرتك السياسية هي هذا المارد الذي في حناياك، مارد كله تعطش للحرية والكرامة؛ مارد لا يقدر أحد الآن على رده إلى القمقم الذي كان حبيسه طيلة زمان طويل قد ولى وانقضى بلا رجعة.
1 - المارد العربي :
في إحدى أغانيه الوطنية، يردد فنان الأصالة والذوق الرفيع فريد الأطرش أن المارد العربي في العالم العربي، وجدوه في كل مكان... وذلك لعمري لهو الحق اليوم بعد أن سقط حاجز الخوف الذي كان فاصلا بين تطلعات الشعب وطموحاته، من جهة، وبين حريته وقدرته على العمل لتحقيق ذلك والأخذ به من عالم الرؤيا إلى حقيقة الواقع الملموس.
فبدءا بتونس ثم مصر وليبيا، وغدا غيرها من الدول المومياء سياسيا، هدر المارد العربي بعد أن أخرجته قوة وازع الحرية من محبسه؛ وهوذا ماردنا يصول ويجول ويعود بالعالم _ وخاصة الغربي منه، الذي غلبه النعاس في فراش الديمقراطية الوثير فسهى عن فروض دوره الريادي وتراخى في القيام بواجباته التي تمليها عليه ثقافته ومباديء حضارته _ إلى ضروريات التآزر والتناغم مع بقية شعوب العالم، وعلى الأخص تلك الكادحة منها تحت نير التخلف السياسي والاقتصادي.
فمستجدات العالم الجديد الذي نعيشه تملي اليوم على الجميع الكثير من التلاحم والتآسي بين شعوب هذه الأرض التي غدت بيتا واحدا، وذلك للوصول إلى الحد من الفوارق بين أطرافها والتذليل من مآسيها، وقد نبعت أصلا من الأنانية المفرطة والتأويل الضيق لمعنى الوطنية.
إن المستقبل اليوم لهو كائن في ما ستفرزه الثورات العربية من نتائج ستكون بلا شك، إذا تم لتلك الثورات المداومة في النجاح والتوفيق، زاخرة بالإيجابيات لما في المخزون الثقافي للشعوب العربية وماضيها الحضاري من تراث تليد زاخر بأفضل الحسنات وأنبل الفضائل، وقد كرستها تجربة نيرة في تعاطيها دامت القرون العدة، طيلة فترة الظلام المطبق والجهل المدقع الذان كانا يعمان سائر البلاد حولها والأرضين التي هي اليوم مركز الحضارة ومرجعية التقدم.
وبما أن الأيام دول بين الشعوب، فلا شك أن انعتاق المارد العربي سيعيد الحياة إلى موارد تلك الحضارة الفياضة ويزكي منابعها فتفيض على كل شعوب العالم بكل الخير والبركة.
إلا أنه من الواجب علينا ومن أوكد الضروريات العمل على توفير كل الظروف المناسبة ليتم النجاح في تحقيق هذه النقلة النوعية؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالسهر على أن يكون تصرفنا في مستوى الظرف التاريخي الذي نعيشه وأن تكون عقليتنا أيضا كذلك. وليس الأمر بالسهل نظرا لتراكم العادات السيئة وتلبد السلبيات على طبع البعض منا مما غطى ما فيه من إيجابيات وكاد يمحيها.
فلا غرو أن أصل الطبع يبقى ولا ينمحي بسهولة؛ ولعل العمل الدؤوب على تعريته مما علق به من الشوائب وطمس معالمه من السيئات ليدوم فيتطلب الكثير من الوقت والجهد؛ ولكنه يؤتي في الأخير ثمرته فتكون من أوفر وأفضل النتاج.
ولا مجال للشك أن ذلك سيكون من السهل على الجيل الجديد فيعطي في هذا الميدان الدرس للأجيال السابقة كما كان ذلك أيام الثورة بما يتحلى به من اندفاع وتطلع للأمثل.
فإلى العمل، أيها المارد العربي، ولتكن ماردا بانيا مصلحا لا يهدم إلا القديم البالي من تقاليدنا وتصرفاتنا ويحي الصالح الفالح مما زخرت به نفسيتنا وماضي حضارتنا، و إن شوهه حاضرها!
لقد كان المارد العربي — أو البربري حسب تعبير الرئيس الحبيب بورقيبة، وإن لم يستثن ضمنيا العربي منه — أبشع الصفات للإنقسام والتنازع والتخاصم لما كان ينبيء به من العنف والصراع الدموي. أما اليوم، وغدا بالأصح، عندما تطغى آليات الديمقراطية والتعامل الحضاري على مؤسساتنا وتصرفاتنا، سيكون مثل هذا التنازع والانقسام لأكبر الدليل على ترسخ الديمقراطية عندنا بما أن ذلك _ بشرط أن يكون مقننا ويتم بصفة سلمية وحضارية _ لهو الدرجة الكبرى للديمقراطية ومرتبتها الأعلى، بما أن أساس هذه الأخيرة، بدون أدنى شك، هو اختلاف الآراء وتعدد الرؤى.
ولا غرو أن هذا التوجه لهو من الانغراس في الذهن التونسي لبمكان، مما أعطى أكله في الحراك السياسي والتصرف المحنك.
وهكذا، ما كان الإتجاه نحو انتخاب المجلس الوطني التأسيي بدون إرادتك العصية بإعتصام القصبة؛ وهذا لهو الدليل الداحض على ما كان لك، أيها الشعب العظيم، وفي مقدمة طلائع شبابك ورغبته الجامحة للانعتاق تطلعها الفوار للحرية، من الدور الحاسم في ترك بصمات لا تنمحي على مسار الثورة حتى لا يكون كما أرادته بعض القوى الداخلية والخارجية لتفرضه عليك.
2 - إرادة الحياة :
فالواجب اليوم إذن على كل تونسي، وبخاصة من فات سن الشباب فأرهقه قحط الزمن الماضي، أن يستيقظ إلى مواطنته فيفعّل مقتضياتها أولا على المستوى النفسي، وذلك بالاعتبار بالحقوق التي تكمن بها وما يمكن له من المطالبة به وبالتقيد بواجباتها وما تقتضيه من حدود، ثم ثانيا، على مستوى تصرفاته فتكون متناغمة مع تلك النفسية الجديدة التي هي بالضرورة أبعد ما يمكن عن التواكل واللامبالاة والكسل وعدم الاكتراث بالصالح العام، فلا يتردد البتة في حد مصلحته الشخصية بالمصلحة العمومية، بل ويسعى جاهدا إلى إيجاد تجانس بين هذه المصلحة الذاتية ومصلحة العموم.
لقد تجاهلت أو تناست بعض القوى المناوئة لإرادتك العظمى أنك سليل شعب ديدنه حب الآفاق العريضة لأنه خلق طليقا كطيف النسيم، كما قال شاعرنا الكبير. فغرتهم بعض سماتك الأساسية الأخرى، ألا وهي السماحة والتسامح وحب الحياة، وما دروا أن مثل هذه الصفات الحميدة ما كانت لتطفيء فيك الجذوة الأساسية التي تغني بها الشابي فأحسن وأبدع.
ولسوف يتعرف العالم على الأكثر من نبوغك وعراقة حنكتك السياسية عندما الجمبع براعتك في تسيير أمورك بكل حرية وطرافة وذكاء.
لقد طُرح السؤال غداة ثورتك الرائدة : كيف التوجه إليك بالكلام ومن له أن يفعله بدون حرج وأنت صنعت التاريخ؟ بأي لغة ومنطق تُكلم وقد بين نضالك فراغ منطق المثقف وزيغ رؤياه لواقعه رغم مرارته؟ ومن له القدرة على إسماعك صوته، حتى وإن كان لقول كلمة الحق، وقد مارس وغازل طويلا كلام الباطل؟
ففي الحين الذي نرى البعض يكتشف حلاوة الكلام بحرية بعد أن مارس بنفس الحلواة كلام الزور وإن كان ذلك بعلة انعدام الحرية ولم يلتزم على الأقل بالصمت البليغ عند عدم توفر إمكانية الاحتجاج، وفي الحين الذي تحتاج إليه مكاسب ثورة الشعب إلى التدعيم والحفاظ عليها من الأعداء المتربصين _ وهم كثر سواء من أذيال النظام السابق أو من فصائل الانتهازيين العديدن في كل زمان و مكان و بخاصة في أوائل أيام الثورات للانتفاع بها على حساب أصحابها _ أتوجه لك بهذه الرسالة وأستسمحك من خلالها التوجه لكل من أراد حقا خيرا لك بالبعض من الملاحظات التي أراها تستجيب لإرادتك في الحياة لأن منبعها واقعك اليومي حيث تستمد حجيتها، لأنه ما من شك أن الشعب الواعي، وتلك ميزتك يا شعب تونس، لا تخدعه المظاهر والكلام الزائف!
لذا، ولأنك اليوم، وقد فرضت نفسك على كل من لا يرى للشعب كلمة، يجب أن تكون كلمتك كما كانت دوما، أي إرادة الأفضل. ولا شك أن ما هو كذلك اليوم، علاوة على ضرورة العدالة، المزيد من التسامح والتواصل والتضامن بين أبنائك وإخوانك؛ ولا يكون ذلك إلا بتكاتف الجهود نحو تحقيق إرادتك في الحياة الفضلى.
وعلى هذا، تزامنا مع تعيين الحكومة الجديدية المرتقب، في هذا النهار المجيد، ومساء اليوم المخصص لتحية معاناة الهجرة والمهاجرين، أتوجه باسمك إلى أصحاب القرار المرتقبين في هذه البلا بما أعتقده من وجهة نظري المتواضعة من القرارات المبدئية ذات الأولوية المطلقة التي من شأنها وطبعها توطيد التضامن الوطني وإجهاض كل عمل مناويء من طرف القلوب المريضة التي لا يمكن انعدامها البتة في عالمنا اليوم، سواد أكانت من طرف نفوس عليلة داخلية أو خارجية. فلا مناص للتصدي لها؛ ولعل أفضل الصد يكون بالتدليل على صحة جسم الشعب التونسي وسلامة نفسه.
وبما ذلك يحتاج إلي ما من شأنه من القرارات التوفيق بين الشكل والرمز، فإليك ما أراه يختزل أوكد رغباتك وأهم طموحاتك، مبتدئا إياها بتحديد ما من شأنه التحضير لها من طرف أبناء الشعب أنفسهم :
1 - أن يبرهن كل تونسي على حسه الوطني بالتزام النظام والكف عن كل مطالبة بحقوقه المشروعة وذلك لمدة زمنية معينة كافية للحكومه الجديدة للعمل على إنجاح مشروعها الرامي إلى إقامة دولة القانون، كما تعهدت به، ولا مجال للشك في حسن نيتها إذ العقل الذي يميزك يقتضي الحكم عليها بعد إفساح المجال لها للعمل بإشارة بليغة منك لثقتك بحكومتك وتوفير المناخ المناسب لها للتدليل علي قدرتها على التقيد بتعهداتها وإنجاحها.
2 - وبما أن السياسة تقتضي توازن التعهدات والإلتزامات، أن يكون من الحكومة ما يبين تناسق سياستها مع أوكد طموحات الشعب، وذلك بأن تتوجه الدولة التونسية باسم الشعب التونسي إلى السلط الأجنبية، وبخاصة الأوربية منها حيث تتجمع غالبية الجالية التونسية بالمهجر، بمطلب رسمي لرفع وجوب التأشرية لتنقل المواطن التونسي نـظرا لما قدمه من أدلة بليغة على نضجه السياسي وتدعيما لاستحقاقه الديمقراطي ومسيره نحو المزيد من الحداثة.
3 - هذا على الصعيد الخارجي؛ أما على الصعيد الداخلي، فيكون ذلك بأن يبرهن أعضاء الحكومة على سمو حسهم الوطني بالتبرع تلقائيا بمرتباتهم لصالح أقل آبناء الشعب حظا، وذلك عدا ما يرونه ضروريا لمعيشتهم، وبذلك يدللون أن عملهم في الحكومة هو بحق كما يعمل الجندي لصالح بلده، إذ يكفيهم شرف الانتماء إلي هذه الحكومة التي هي بمثابة الجيش في معركة حاسمة هدفها تدعيم إستقلال البلاد السياسي والذود عن مكتسباته الحداثية؛ فالعمل لصالح الوطن لهو خير مرتب للسياسي الحق!
4 - ولعله لا يكون من الغريب، إذا أعطت الحكومة مثل تلك الإشارة السياسية البليغة، أن ينحى منحاها كل ذي دخل مرتفع في تونس، غيور على مصلحة بلاده، فيتبرع كل الموظفون السامون بجزء من مرتباتهم. ولا شك أن أعضاء المجلس التأسيسي سيكونون عندها من الأوائل للتفاعل مع هذه المبادرة. وعندها، يميز المواطن الغيور على وطنه اللاهف على المناصب وزخرف الدنيا الكذوب من كل ذي حس وطني صادق، ويحس الموطن المعوز بالدليل القاطع على أن تونس هي حقا وحقيقة كالجسم الواحد، لا ينهك الضنك جزءا واحدا منها، أيا كان صغره، إلا تناغمت معه بقية أجزاء الجسم متسارعة لمداواة قروحه والعمل على إعادة الصحة لها، لأن في سلامة العضو صحة البدن بأجمعه.
هذا غيض من فيض؛ وللبقية حديث بعض تسمية الحكومة. وعشت يا شعب، يا ابن أمي، حرا منيعا أبدا، كنور الضحى في سماء تونس الجميلة، طليقا كطيف نسيما العليل لتبهر العالم أجمع على نبوغك السياسي وعبقريتك ما دامت المقادير تلهمك حب التسامح والإخاء ومبادىء الإنسانية الأساسية والعمل الحق على تكرسيها في عالم استفحل فيه التدني عن أبسط أخلاقيات التحابب والتآخي والعدالة !
فتونس اليوم، بإرادتك في الحياة، هي طفولة العالم الجديد؛ وكما قال شاعرنا الخالد :
لله ما أحلى الطفولة! إنها حلم الحياة
نشرت على نواة
Publié sur Nawaat