Mon manifeste d'amour au peuple 2/3
 




Mon manifeste d'amour au peuple 3/3


I-SLAM : ISLAM POSTMODERNE








Accès direct à l'ensemble des articles منفذ مباشر إلى مجموع المقالات
(Voir ci-bas انظر بالأسفل)
Site optimisé pour Chrome

lundi 29 octobre 2018

Militance provoactrice 4

ألوكة أخيرة لراشد الغنوشي
أو
 شاهدٌ لما بعد حداثة النهضة التونسيّة

هذه خاتمة ذيل كتابي «الفتوحات التونسية. ما بعد الحداثة الإسلامية» الذي كشف تلاعب أهل التزمت من الإسلاميين بالرسالة المحمدية. فقد ذكّرنا فيه الشيخ الأستاذ راشد الغنوشي بمقولاته في إسلام إناسي ديمقراطي نأمل أن يسعى حقا وحقيقة في إرسائه بتونس، وبينّا كيف يكون ذلك بالأمثلة والأدلة.
إلا أن مصالح الشيخ الأستاذ، الذي وصلته نسخة من المصنف، سعت في التعمية عليه؛ فلم يذكره الإعلام بتونس وتجاهله إلا القلة القليلة من أهل الإعلام الحر النزيه.
وها نحن ننشر الرسالة، وهي الألوكة بالعربية الفصحى، هذه اللغة القحة التي يتشبث بها الشيخ راشد الغنوشي لأسباب موضوعية وخاصة لعوامل غير واعية بينتها في ديباجة الكتاب، خصصتها لما أسميته البديع السياسي، تعرضت فيها لمتخيل الإسلام السياسس انطلاقا من نموذج الشيخ الغنوشي. ولعلي أنشرها في فرصة أخرى إذا تواصل التعتيم على كتاب همه الأوحد المساعدة على الخروج بالسياسية ببلادنا من الخور الذي تعاني منه، إذ هي بلا أخلاق ولا مبادىء رغم الادعاء العمل بتعاليم دين هو براء من تبليس أهلها.
هذه إذًا خاتمة كتابي وذيله، بدون الحواشي مع إضافة عناوين فرعية. مع العلم أني نشرت منها مقتطفات في مقالتي الأسبوعية الأخيرة على موقع أنباء تونس:
حديث الجمعة: حقائق عن حزب النهضة قبل الحكم وبعده (2)

 الفتوحات التونسية. ما بعد الحداثة الإسلامية
(خاتمة ذيل الكتاب)


لنختم الذيل بالعودة إلى الأقوال المسجلة عن الشيخ راشد الغنوشي في ألوكة أخيرة، هي هذه المرة من كتابه الآخر في، الحرّيات العامّة في الدولة الإسلاميّة، الذي يبين فيه أنّه أراد : « أن يؤكّد أنّ الإسلام إ نما جاء لمصلحة البشرية، وأنّه يستوعب كلّ إنجازاتها الخيرة، مثل التقدّم العلمي والديمقراطية وحقوق الأفراد والشعوب والأقليات والنساء على أساس المساواة.».
في هذه الألوكة أيضا، سأخاطبه مباشرة، إذ هي رسالة في الشهادة الإسلاميّة، كما يعرفها الشيخ أفضل مني. في ما عنونتَه بذكاءٍ «للذكرى إذ عزّ اللقاء »، تقول، يا سيدي، حفظك اللّه: «وإذن. فالاستبداد هو منبع العنف والشرّ، وهو جزء من علاقات الحيف تفضي إلى مرض المجتمع.» وتضيف : «هذ الكتاب مؤسّس على قناعة تامّة بصلاح الإسلام لكلّ زمان ومكان، لأنّه كلمة اللّه الأخيرة، فهو دين الفطرة، المع رب رب عن أشواقها وحاجاتها الانسانية العميقة بما يجعله مؤهّلا لاستيعاب كلّ كسب معرفي وخبرة إنسانيين، لا يضيق بهما ولا يتناقض معهما، بل يرحّب...». ونحن لا نقول غير هذا، وما ورد في الخواطر والذيل لهو امتحان لزعيم الإسلاميين على صدق نيّته ونزاهة فكره. فهل من المفيد التذكير بهذه المقابلة في الإسلام بين النفس الأمّارة والنفس المطمئنة التي يسهى عنها أهله، بينما لا بد من الانتباه إليها والتذكير بها ؟ إنّه من النفس الأمّارة الاعتقاد في إسلام مخادع، مقاتل، يخصي الحقوق ويقزّم الحريات. إيمان النفس المطمئنة إيمان مسامحٌ متسامحٌ يدعم الحقوق كلها ويمجّد الحريات بلا استثناءات، أخذا بما وصل إليه العقل البشري المحض.
 رسالة في الشهادة الإسلامية 
أيا شيخي الكريم، ألا تمتهن النهضة اليوم ما كانت تعيبه على الأنظمة السابقة التي كانت سياستها «مجرد أمانيّ وألعاب بهلوانية ليست هي بحال العنصر الأساسي المحدّد في السياسة ألا وهو ميزان القوة) »، كما قال زعيمها وذكّرنا به في الخواطر ؟ ألا يعتقد الإسلاميون أنّ القوّة الحقيقيّة هي قوّة الشعب وأنّه شعب حرّ أبيّ وليس فقط مسلما أو عربيا على أرض تونس ؟ وأين تقويمكم الصارم للأوضاع بالبلاد ونزاهة مقولتكم، وأين القبول بالآخر المختلف حتى وإن كان أقلية ؟ أليست هذه أخلاقيات الإسلام والسياسة الأخلاقيّة قبل أن تكون مبادئ الإسلام؟ لقد أكد البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي «على أنّ حركة الاتجاه الإسلامي لا تقدّم نفسها ناطقا رسميا باسم الإسلام في تونس ولا تطمع يوما في أن ينسب هذا اللقب إليها »، إلاّ أنّه يضيف أنّ الحركة «ترى من حقّها تبنّي تصوّرا للإسلام يكون من الشمول بحيث يشكّل الأرضيّة العقائديّة التي منها تنبثق مختلف الرؤى الفكرية والاختيارات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تحدّد هويّة هذه الحركة وتضبط توجهاتها الاستراتيجيّة ومواقفها الظرفيّة.». هذا لغويّا من لحن الكلام ومن التصحيف الإرادي، وبلاغيا من البديع، وسياسيا من الدغمائية والماكيافيلية. أليس هذا اللحن معناه التضاد، أي أن تكون اللفظة الواحدة حاملة معنيين متضادين ؟ تلك قطعا الماكيافيلية السياسية التي تمرّر الدغمائية على أنّها من باب الأخذ بما شاع، بينما تغض النظر عن التفتّح الذي تدّعيه. لقد بيّنت النهضة تعلّقها بالنظام الديمقراطي الذي ينبني لا على حقوق الأغلبية بل خاصّة على حقوق الأقليّة التي من شأنها أن تصبح أغلبية. فهلا مرّت من «الأرضية العقائدية »، وهي من باب النظرة العموديّة للأشياء التي ملتها الشعوب، إلى نظرة أفقيّة، فنّهتم بعقائدية أفقية هي ملك الجميع، لكل مواطنة ومواطن التوجّه نحوها حسب مكانه وزمانه وخطوته ومشاربه ؟ ألم يحن الوقت لطرح استراتيجية المطابقة جانبا، هذا الطباق السياسي الذي يجمع في عبارة واحدة  بين معنيين متقابلين، تماما مثل الطباق؛ إنّه سلب وإيجاب، م ما ما يمهّد لسياسة المقابلة التي «هي أن يُؤ ى بمعنيين مترافقين أو أكثر، ثمّ يُؤ ى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب»، وليس هذا من ت ت أخلاق السماحة !
لقد ذكّرتُ في الخواطر بقولك إنّ «الحركة الإسلاميّة... دخلت بقوّة كأن ليس في البلد إسلامسابق، وكأنّها فاتح جديد يريد أن يعيد تشكيل الإسلام في تونس تشكيلا كاملا، ثمّ تب ين ين بعد ذلك أن هناك تراثا إسلاميا في تونس». كما ألمعت في الخواطر إلى قولك إنّ «للمجتمع كلمته، وردّ فعله، وأنّه ليس عجينة طيعة وأنّ الشعب التونسي الذي يبدو مائعا ليّنا في الحقيقة له ثوابت .» نعم، سيدي، نحن نشاطرك القول إنّ للمجتمع كلمته. إلاّ أنّك، كزعيم إسلامي، وبفضل ما تتميّز به من حسن نيّة وتأكيد على التغير ير وقبولك للتغيير، فقد دلّلت أنّ لاوعيك، أو ر مب مبا هو لاوعي أنصارك، ما انفكّ يخضع لما يميّز تصرفات من انتقدتهم بنفسك. فقد بيّنت، في نفس المقال أنّ ما نجحت النهضة في تجاوزه «هي مسائل لا يزال بعضها أو كثير منها موضع أخذ ورد لدى الكثير من الأوساط الإسلاميّة بعد قرابة عقدين. ». الحال نفسها بتونس، إذ لم تنجح بعد البلاد في مسيرة استبدال القوانين التي تعرضنا في هذه الخواطر للبعض منها. أمّا ما تمّ تغييره، بل «وما قُبل منها تمّ غالبا تحت مطارق الواقع القاهر ولم يستند إلى تأصيل وقاعدة فكرية ». فهلاّ قبلت النهضة ما أكّدنا عليه من ثوابت صحيحة دينيا حسب مقاصد الشريعة كتحقيق المساواة في الإرث أو تحليل حريّة شرب الخمرة أو العلاقات الجنسية بين المتراضين من البالغين، بما فيهم المثليين ؟ إذا فعلت ذلك، أتت عندها حقّا بهذا التأصّل الذي تتحدث عنه.
القطع مع تأليه الدولة
صدقتَ، يا شيخنا، حين قلت إنّ «طبيعة السلطة في تونس طبيعة انفرادية »؛ هذا لم يتغير. ف «التألّه، تأليه الدولة في تونس » يستمر بمنظومة الديكتاتورية و«المشروع السلطوي » للإسلام. وبقيت «مشكلة المجتمع التونسي مع الدولة» على حالها. وقلت أيضا، ونستسمحك التذكير به : «إنّ ثقافة الصلح والإصلاح تنطلق إذن من فكرة التواضع وترك الغرور والرغبة في التعلّم من الآخرين والجرأة والصرامة في نقد الذات من طريق تربيةٍ وإنعاش نفسنا اللوامة». إنّ ما يتطلّبه الوضع الراهن بتونس الجديدة لهو العمل بسياسة ما بعد الحداثة. وقد بيّنا علم السياسيين بالبديع وامتهانهم له كما يمتهن الشاعر علم القوافي دون معرفة، ضرورة، بالعروض. وقد قال المتنبي أنه فوق العروض ! إنّ سياسة ما بعد الحداثة، ما لم تكن أخلاقية كما تحتّمها عودة الروحانيات، لهي من امتهان الشعر كما تكلّم فيه الفرقان الذي خصّ الشعراء بسورة كاملة، هي من أطول السور كلمات.
ألم يمر حزب النهضة من فكر التواضع إلى ضدّه، ومن ترك الغُرور إلى امتهان تصرف الغَرور، ومن نقد الذات إلى تنمية اللذات في التمسّك بالحكم وتصريفه لأغراضه باسم الدين ؟ لعلي أخطئ وإنما كان ذلك قبل ارتقاء سدّة الحكم. ولعلّ ما يدّل على عدم تعلّق النهضة بالديمقراطية تجربتها في الحكم. ولعل أفضل نقد لذلك ما جاء في كتابك عن تجربة الحركة الإسلاميّة حيث بيّنت في الحكم تهافت كلّ مقولاته وقناعاته ؟ من ذلك ما تذكره، يا شيخنا، عن «البراغماتية المميّزة لفكر الترابي» الذي غذّى فكرك. فهل تعتّد اليوم بمثل هذه الدغمائية السودانية ؟ وماذا عن مرجعيتك الأولى، الخمينية ؟ حقّا، لقد مرّ شعب تونس الجريح من «النفاق البورقيبي وتعريته من تيجان الحداثة الزائفة » إلى نفاث وزيف جديدين باسم الإسلام هذه المرّة ! فكيف تقبل بهذا وأنت مؤتمن على الفهم السليم لدين القيّمة ؟ السؤال المطروح اليوم هو: هل حقّا «تطّورت الحركة الإسلاميّة التونسيّة من فكر شمولي إلى فكر تعدّدي ؟) ». فعندما تقول «إنّ الإسلام روح هذه الأمة، فأ ى لتحريكها وتعبئتها لمشروع دون المرور بالإسلام الذي أطلق للعقل نّ العنان وحّرره من كلّ وصاية »، أتساءل أين الفعل لتأكيد هذا القول في الواقع بخصوص الحقوق والحريات التي تعارف عليها الضمير العالمي لكل حضارات البشر وسوّغها العلم فأصبحت من ثوابت الإناسة ؟ أين فتوحات الإسلام في ميدان المواضيع المسكوت عنها، وهي من ميزة هذا الزمان ؟ أليس الإسلام ملّة العصر بما أنّه خاتم الأديان ؟ فكيف لا يكون في مقدّمة المنافحين عن الحقوق الإناسيّة كلها دون أي مراوغة أو تحيّل ؟ ليس هذا من الأخلاق الإسلاميّة الصحيحة ! فأين شهادتك للعصر؟
إنّك أقررت بأخذك بفكر مالك بن نبي واعتبرته من منظريك. أليس هو من يقول في، شروط النهضة : «نحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يُسمّي الوقت، لكنّه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن التي تتّصل اتصالا وثيقا بالتاريخ.)» ؟ فهل عرفت النهضة التونسيّة الزمن اليوم، وهل أفاقت لوقع التاريخ الذي حطّ رحاله بتونس لنستيقظ من غفوتنا ونخرج من وقت العدم إلى الوقت الصوفي ؟ يقول المفكر الجزائري الفذ في مذكراته : «بدأت تتراءى لي تباشير عالم جديد وتاريخ إنساني جديد وهما يُطلاّن من القرن العشرين. والمثقّف المسلم مسؤول على إشراك الإنسان المسلم في تشييد هذا العالم الجديد وعلى إدماجه إلى أبعد حدّ مع القوى الصانعة لتاريخه.) » . فأين مساهمة شيخنا وما هي طبيعتها ؟ أنت تعرف أيضا مقولة رجل الفكر الروماني، السياسي الباهر والفيلسوف الرواقي : تجري الرياح بما تشتهي السفنّ العارفة لطريقها. فما هو الطريق لتونس، سيدي راشد، أرشدك اللّه وأرشدنا لأفضل السبل م ما ما فيه خير العباد أجمعين ؟ّّ
الخروج من الاستعمار الذهني
هذا يقتضي الخروج من فخّ الاستعمار الذهني (العلمي، حسب بن نبي)، ومن قابلية الإمبريالية، وهي ما نعتها بالقابلية للاستعمار، ومن علمويتنا وإسلامويتنا، وقبل كلّ شيء رفض وضع الزعيم أي القزم المتزعّم. فألقاب السلطنة في غير موضعها، خاصّة في عولمتنا الراهنة، مثل ادّعاء القطّ محاكاة صولة الأسد. تحدّث بن نبي طويلا في أمراض الأنا ونبّه منها دون جدوى. وقد اعترف بصدق تحليله الزعيم الجزائري بن خدة، فقال إنّه «كُتب النجاح للأنا، وهو مصدر العناد والتعنّت والتسلّط. ذلك المرض الذي أصاب زعماءنا وأصمّ آذانهم عن كلّ معارضة، وجرّهم إلى التفرعن وهم لا يشعرون. وإذا أضفنا إلى ذلك ما كان من رداءة وانعدام الكفاءة، لابدّ أن نتوقّع كلّ العواقب الوخيمة.» . لقد كان المفكر الجزائري شاهدا على الثورة الجزائرية ولم يتردّد في التصريح بشهادته من أجل المليون شهيد، إلاّ أنّ القوى الظلامية الهائلة منعت نشرها طويلا، وقد كان، كما قال، حبّة غبار وسطها. فالنص المحرر في 1962 لم يتمّ نشره إلاّ سنة 2000 . ولا غرابة في التردّد في التعريف به في البداية، إذ نجد فيها سلاطة لسان غير معهودة وحريّة نقديّة أكبر. نجده فيه مثلا يتكلّم عن «الحقد الحيواني » المحيط به وعن «أنبوب الخيانة أو الرضاعة التي ترضع الخونة.». حرص بن نبي، في حياته وبشجاعة، على واجب الشهادة والاصداع برأيه في المحافل. فهو شاهد على القرن. والشهادة «لا تكون مقبولة إلاّ إذا تمّت مراقبتها من طرف المعاصرين، وإلاّ فإنّها يمكن ألاّ تعدو، من بعد الموت، أن تكون كذبة من حياكة أحد الولوعين بالاضطهاد أو أحد الراغبين في مراتب المجد بعد الموت. وكان حريصا على أداء شهادته على قرنه لشدّة قناعته بما بيّنه منذ 1951 في ورقة مختارة، بعنوان «عشية ظهور حضارة إنسانية) »، من كتابه، وجهة العالم الإسلامي، الذي لم يصدر إلاّ في خريف 1954 . فبما أنّ البشريّة على عتبة حضارة جديدة، كان لابدّ له من الشهادة. ولا تهمّ طبيعة الشاهد، إذ «قد يكون ذرّة، لكنها ذرّة ضرورية لاستمرار حركة عجلة التاريخ الإنساني. كلّ وجودٍ، وكل حدث، ما هما إلاّ قطع أو ذرات من مصير الإنسانية.» هكذا كان من انتميتم إلى فكره، فهلا كنتم مثله، شاهدا على القرن الجديد؟
رغم ذلك هناك حلقة مفقودة في فكر بن نبي، وهي الروح الإسلاميّة الحقّة، أي الروح الصوفيّة. فلو كانت له لما قال بالعودة لقيم الإسلام والروح العالمية فقط، بل قال بالعودة أيضا لروح الإسلام والقيم والمعايير العالمية. لذلك وقع هذا اللبس الذي كان واعيا به. ولذا كانت التيارات التي تدّعي التقدميّة بالجزائر ترى أنّه رجعي أصولي، بتعلّة انعدام حسّه الوطني واهتمامه بمشكل العولمة قبل كلّ الناس. كما لم تقبل به التيارات الإسلاميّة. مثال ذلك، الشيخ الأزهري دراز، مقدّم كتابه الأوّل في التفسير العلمي، الظاهرة القرآنية، لم يتردّد في الانتقاص من معارفه الشرعيّة لانعدام صفة رجل الدين عنده، رغم أنّ بن نبي ما ادّعاها قطّ، بل طالب فقط بحقّه المشروع في الاجتهاد، ور مب مبا هذا ما حمله على حذف تلك المقدّمة من النسخة الموالية للكتاب، وقد ب ين ين امتعاضه من ذلك في مذكراته قائلا : «كنتُ على وشك أن أفهم أنّ بين علمائنا المشرقيين من جهة، وبين المستشرقين على شاكلة ماسنيون من جهة ثانية، قاسم مشترك يتمثّل في أنّهم قليلو الحبّ لأمثالي الذين يندسّون في الدراسات الإسلاميّة اندساسا.» . لقد قاومه الإخوان المسلمين لانتقاده لسيد قطب، وأنت تحدثت في كتابك، سيّدي الشيخ، عن ذلك وبيّنت أنّك وقفت بجانب مفكرنا الجزائري. وقد علّق بن نبي على ذلك بقوله: «يبدو واضحا أنّ آلة الإخوان المسلمين كلّها صارت عجلة قيادةٍ قويّة بين أيدي المخابرات الأمريكية وبين أيدي الصهيونية في مجال الصراع الفكري.»
إنّ أهميّة الصراع الفكري عند مفكرنا لكبرى. وقد حمله هاجسه على الخوف من قتل الإسلام بتواطؤ من أهله، وعنى بإسلام هؤلاء الثقافة الإسلاميّة التقليديّة التي انتقدها نقدا لاذعا، فنعتها ب «ثقافة الأزهر والزيتونة، تلك الثقافة التي تقتل الضمائر والنفوس، كانت عندي أبشع كارثة تهدّد العالم الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت لم أزدد، بكل أسف، إلاّ اقتناعا بهذا الموقف. إذا أردنا أن يحيا الإسلام أو ينتعش، فعلينا بقتل ما يُسمّى اليوم بالثقافة الإسلاميّة. تلك الثقافة التي تُعفّن النفوس وتُذلّ الطباع و مت متيّع الضمائر وتُؤنث الفضائل. وأنا الآن مقتنع بهذا أكثر من أي وقت مضى.» ( هذا الكلام القاسي ورد في مخطوطة «العفن » التي لم يقع نشرها إلاّ بعد وفات صاحبها الذي وجد نفسه مضطرا للالتجاء إلى التقيّة الفكريّة بالرغم من واجب الشهادة الذي كان له والتزم به عموما. يقول المكلف بنشر أرشيفه: «ما يم يمكن استنتاجه من أقوال بن نبي هو أنّ الإسلام لم يعد قوّة دفع جماعي للمسلمين من النواحي النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وأنّه لم يعد موجودا كنظام سياسي، ولم يعد يخاطب إلاّ الميول الوجدانيّة التكسّبيّة لدى المسلمين. والنتيجة التاريخية التي أدّت إليها هذه الظاهرة هي ما نراه من استشراء جملة القوالب الجاهزة والسلوكات التي مت متيّز ما نُسمّيه اليوم بالإسلاموية. ». ويضيف مستشهدا بكلام بن نبي في مقال له يعود إلى سنة « : 1972 عندما يتحوّل الدين إلى مجموعة من الطقوس التي تُؤدَى بطريقة آلية، فهو يقع بسهولة في مغبّة الاكتفاء بممارسة الطقوس والرموز والإشارات بدلا من الاهتمام بدلالات كلّ ذلك. فإذا ما استولى الدال على مكان المدلول، تكون العودة إلى السحر، وتسود مملكة أهل الورع الممزوج بالنفاق، وأخيرا يُحكم المشعوذون قبضتهم على كلّ شيء. » وإذ هذه هي الحال عندنا، فأين واجب الشهادة، سيدي راشد ؟
يقول بوكروح عن بن نبي، وهو من أعرف الناس به وبفكره، إنّه «كان يعي منذ فجر حياته أنّه سيعيش مُعلّقا بين عالمين وبين حضارتين. ولم يكن منسجما مع أيّة مدرسة أو مقاربة مهيمنة في المشرق كما في المغرب. لم يكن يُعقل أن يجد سندا في أطروحات المستشرقين وتلامذتهم من الحداثيّين، وهم البعثيون والماركسيون واللائكيون الذين كانوا يعتبرونه نزّاعا إلى الوحدة الإسلاميّة، ويعتبرونه وهابيّا وأصوليّا. ولم يكن يُعقل أن يجد سنده في أطروحات العلماء التقليديين كذلك، لأنّهم كانوا يرون فيه دخيلا على عالمهم النموذجي، المتزمّت والغيور.»  فهل مثل هذا ينطبق عليك، سيدي راشد؟ نقرأ له أيضا في مقدّمة كتابه «والمثقفون ثقافة أجنبية في تقديري صنفان: صنف يرتمي في أحضان الثقافة الأجنبية التي تشبّع بها ولو كلّفه ذلك الارتماء التنازل عن مقوّمات ثقافته الوطنيّة أو القوميّة. وصنف يعمد إلى صبّ ثقافته الأجنبيّة الشخصيّة في قالب ثقافته الوطنيّة أو القوميّة. وبن نبي ينتمي إلى الصنف الثاني، إذ أُتيح له من الثقافة الغربية ما لم يُتح لكثير من بني جيله، لكنّه عندما شرع في تأليف منهجه الفكري اتّخذ الإسلام منطلقا لأنّ وعيه الحضاري أملى عليه ذلك، ولأنّه أدرك أنّه لا يصلح لأمّة إلاّ ما كان ضاربا بجذوره في أعماق تربتها. وقد بدأ مفكّرنا مسيرته الفكريّة في جوّ الانبهار بأفكار الحركة الإصلاحيّة التي بدأت تباشيرها بالبزوغ، لكنّه ما لبث أن تجاوزها حتى صار من ألدّ خصوم المنهج النقلي في الإصلاح.»
لسعة الحق التي لا تطاق
وأنت، سيدي الشيخ، قد بينتَ في كتابك أنّ تلك هي أيضا مسيرتك، إلاّ أنّ، الظاهر، أنّك وقفت في منتصف الطريق، فهلا أكملته وقد توفر لك ما لم يحصل لقدوتك، أي مقاليد السلطة ؟ فالخوف الخوف اليوم أن تكون حالك مثل هؤلاء الذين قال فيهم كلاما لاذعا، لكنّها تبقى قولة حقّ، وللحقّ لسعة لا تُطاق. يقول بن نبي في، وجهة العالم الإسلامي، عن سبب اختياره أن يكون شاهدا على القرن: «ذلك أنّني أخشى أن أجد نفسي يوما كإنسان نذلٍ قضى حياته متنكّرا في صورة إنسان نزيه.» . طبعا، نحن ننزه شيخنا عن مثل هذه الصفة. لكنّنا نرى أنّه لم يعد ممكنا للنزهاء، بعد شهادة بن نبي، التعلّق بورقة التوت الإصلاحيّة المعهودة في ثقافة إسلاميّة بارت وفقهٍ كسد، إن لم نقل فسد. لنُعيد معا قراءة هذا المقطع من مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، وهو يُعد من أهمّ كتبه، ومن أواخر ما نشر: «إنّ المدرسة الإصلاحيّة منذ محمد عبده لم تنتبه إلاّ قليلا إلى أنّ الذات الإسلاميّة قد سقطت في هُوّة. لكن إخراجها من تلك الهوة يقتضي أحد أمرين: فإمّا أن يُبعث فيها نَفَس روحي جديد كما فعل لوثر Luther وكالفن Calvin في أوروبا، أو أن تحدث فيها ثورة فكرية كتلك التي قام بها ديكارت Descartes ، وبمعنى آخر: يجب إعطاؤها دفعا خلاّقا للأفكار بشكل من الأشكال. ولم تتمكّن المدرسة الإصلاحيّة من الأمرين: فلا هي نجحت في إصلاح ولا قامت بثورة، بل وقعت هي نفسها في الهوّة وهي تصيح: إنها في الهوّة. » . أملنا أن يكون راشد الغنوشي، وقد مكّنته الأقدار من الفرصة السانحة، شاهدا هو الآخر كمثاله الجزائري، لا على القرن الجديد فقط، بل على ما بعد حداثة النهضة التونسيّة أيضا، سواء كانت حزبا أو حضارة. وذلك يحتّم إعطاء نقد مالك بن نبي للوضع الراهن، الذي بدأه في وجهة العالم الإسلامي (1954)، الامتداد المادي والملموس وتلبية دعوته إلى «ضرورة تحرير الذات الإسلاميّة من الأرثودوكسية التي أرست قواعدها بظهور المدارس الفقهيّة الأربعة والتي أنتجت الثقافة الإسلاميّة الحالية.». ورغم أنّ بن نبي لم يبق نقده هذا على حاله في الطبعة الموالية، ففكرته واضحة في وجوب الاعتبار بما حدث مع ديانتي التوحيد الأخريين والمفارقة الناتجة عن ذلك. «فالمسيحية، كما يقول، انطلقت من نظرة ضيّقة وغير واقعية إلى العالم ثمّ كان عليها أن تُصلح حالها أثناء مسيرتها، وبتحرّرها من سيطرة النظام الكنسي ومدرسة التعاليم القديمة تمكّنت من تحقيق نهضتها. أمّا الإسلام، فقد انطلق من نظرة ليبيراليّة وعقلانيّة إلى الكون، ثمّ راحت روح الإسلام تنغمس في هوّة العلم التقليدي بالتدريج، وقبلت بتدميرٍ داخلي طالها على يد الثقافة الإسلاميّة التي أخضعتها لدوغمائية آلت بها إلى العُقم التام.»
إنّ ما أوردناه، وقد لحقه مقصّ بن نبي نفسه الذي طبّق القاعدة الصوفيّة المعروفة بخصوص المضنون به على غير أهله، فأودعه دفاتر لم تنشر إلاّ بعد مدّة طويلة من وفاته، تضمن كلّ ما كان يُعتبر «غير لائق من الناحية السياسية » آنذاك، كتمها على الناس، إلاّ أنّه دوّنها لضرورة الشهادة. وقد تمّ نشر أغلب هذا المسكوت عنه والواضح-الخفي، حسب عبارة نور الدين بوكروح الذي كان له فضل نشرها. ولا شك أنّ مثل ذاك التخفّي مرض من أمراض ثقافتنا التي قاومها بن نبي، إلاّ أنه لم يعر التعرية الأهميّة التي تستحق رغم أنّه لا إثم ولا ذنب للتعرّي في الإسلام كما بينّاه في الخواطر. وليس هذا بالمستغرب عند بن نبي إذ اعترف بنفسه في مذكراته أنّه «محافظ من الناحية النفسية وثوري من الناحية السياسية ». فهل أنت مثله، يا شيخنا ؟ وهل لك، كما قال أيضا عن نفسه، أفكار مسبّقة «قد تكون موروثة منذ (الطفولة)، وهي التي أدّت إلى خلق نوع من الغيرة والحسد بطريقة لا شعورية (عنده) إزاء العائلات الكبرى ؟ (ويعزو هذا إلى تأثير) النظام الشيطاني الذي يفرض (عليه القيام) بتأويل كلّ شيء.»
مثل هذا نجده في ثقافتنا التي تحمل على استباق الأحداث وكأنّها تمّت قبل حدوثها بما أنّ الأمور عندنا بخواتيمها. لذا نرى العربي يجعل، لاشعوريا، الخواتيم بدايات. لهذا، ليست المحافظة عند العربي ما نذهب إليه عادة في تعريفها بأنّها النزوع إلى إبقاء ما هو قائم ومقاومة التجديد، هذا لا يتناسب مع عقليّة العربي الآخذة بالجديد، بل هي تفرضه إلى حدّ القول ب «المعيز ولو طاروا». إنّ المعنى الصحيح للمحافظة، عربيا، لغويا وسيكولوجيا، هو الحراسة والرعاية. فالحافظ والحفيظ والمحافظ هو الموكّل بالشيء ليحفظه. ومن البديهي أن يكون هذا الشيء ثمينا. فإن ابتذل، فلا محافظة، إذ لا قيمة للحفاظ عليه. بهذا نرى كيف قلّدنا ما داخل عاداتنا من مفاهيم غريبة جعلتنا باسم مفهوم المحافظة الأخرق نسهى عن الفهم الصحيح، أي ضرورة السهر على قيمة ما نحافظ عليه والعمل على استعادتها، إن فُقدت، بآلية معروفة في الإسلام سهينا عنها ونبذناها، وهي آلية الاجتهاد. مثل هذا التغريب للمفاهيم الصحيحة شائع عندنا. وقد ندّد به بن نبي أي تنديد، معتبرا ذلك من آليات الحرب النفسية ضدّ من نعتهم مواطنه فرانز فانون بالملعونين في الأرض.) 3( هذا الذي يخلق ما س ما ماه «الغول ذي العشرة أرجل »، وهو الذي يؤدي إلى عبادة الأشخاص بديلا عن اعتناق الفكرة، والبوليتيك عوض السياسة الفهيمة الأخلاقيّة، ومرض الفكر عوض حبّ الحكمة، وتزعّم الزعيّم وعلمويّة العويلم وخيانة الخويّن. تلك مصطلحات جديدة جارحة لبن نبي تنضاف للاستنباط الأعظم للقابليّة للاستعمار، أي «الأساس السيكولوجي الذي انبنى عليه الاستعمار.» . إنّ السياسة لا معنى لها عند بن نبي إن لم تكن مستوحاة من مسلّمات أخلاقية (ما أسمّيه من جانبي poléthique)، وإن لم تستهدف غايات حضارية. يقول : «كنت دوما على قناعة باستحالة قيام وضع سياسي من دون قيام وضع أخلاقي سابق له.». فأي وضع للأخلاق السياسيّة أنت تنوي لتونس، شيخ راشد الغنوشي ؟ هل ترون مثلي ضرورة المرور من السياسة العتيقة اللاأخلاقية، سياسة الليث والثعلب، إلى السياسة الفهيمة الأخلاقيّة ؟
لقد واكب بن نبي كلّ مراحل الثورة الجزائرية وندّد، منذ البداية، بما نعته «وطنية الأسواق التي لا تنشغل بقضايا المجتمع » . كان هذا قبل نجاح الثورة. ثمّ احتجّ على مصادرتها في شهادته من أجل مليون شهيد الموجّهة إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، في فيفري 1962 . وها نحن بتونس نعيش ما عاشته الجزائر تقريبا، فلا وطنية إلاّ سوقيّة عالميّة رأسماليّة متوحّشة، إذ ليست هي السوق العربية، أي المهرجان والمعرض، حيث التلاقي والتبادل وتلاقح الأفكار، ولا هي الانفتاح الحقيقي على العالم، بما أنّ الحدود لا تُفتح إلاّ للبضائع، وهي دوما مغلقة أمام العباد، مصدر الثروات ! بل نحن في أوج القابليّة للاستعمار وماكيافيلية الاستعمار، فهما عنصرا الامبريالية الافتراضية التي هي إذن أساسا داخلية بامتياز. هذا الذي يفرض الخروج السريع من الانسداد الفكري الحالي، وهو سياسي ذهني، أول مظاهره وهم الاعتقاد أنّ المجتمع المسلم يعيش وفقا لتعاليم القرآن، بينما هو يلثغ بها، في أفضل الحالات. لهذا، لا مناص من العودة إلى الدين الصحيح للتصدّي بروحانيته لهمجيّة الماديّة المجحفة، وهو طبع دين فترة الحضارة الإسلاميّة، أي الإسلام الصوفي.
إنّ التصوّف ليس وهما، إنّه للإيمان كالجبر للرياضيات، إنّه الجبر الإيماني algèbre  de la foi. طبعا، من الممكن الإيمان بدون رياضة بالمعنى الصوفي ورياضيات، فيكون الإسلام عندها مجرّد اعتقاد غير علمي، أي اعتقاد شعائري، بينما هو، لصفته كخاتم الأديان، علم وفنّ وثقافة معاملات. فهو إذن، في صفته الصوفيّة تلك، الجبر الإيماني. فعسى أن تكون هذه الفتوحات الدليل العلمي على ذلك لما فيه الخير العميم لتونس وللإسلام كدين علمي عالمي، خاتم الأديان بحقّ، كدين ما بعد الحداثة.
إنها كلمة السواء
ولئن كان من المتحتّم، في نهاية هذه الألوكة، تحية فكر بن نبي في تفطّنه إلى ضرورة جذور الإصلاح ومفاتيح العقليّة الاستعماري، فإنّه من النزاهة القول إنّه لم يعدو الحلم في نظرته للأفروآسيوية أو الكومنولث الإسلامي. غير أنّ هذا لم يمنعه من الانتباه، قبل غيره، للنزعة العالميّة وضرورة حضارة بشرية جديدة في نطاق صراعٍ للأفكار لا ينتهي. على أنّه، ر مب مبا لقلة معرفته بالتصوّف، لم يصب حين حصر فكره في خانة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة فحسب. ولعل الخطأ الأكبر، وما يُعاب على بن نبي، هو اعتقاده في أنّ الحضارة الغربية متشبّعة بفكرة الصراع من أجل الحياة وفي نقيضها في الثقافة الإسلاميّة. فقد رأى فيها الأقدار تتحكّم في مصائر البشر، ومن ثمّ فلا جدوى من الصراع. وعلى غرار الكثيرين ممّن سبقوه، ظهر له ذلك واضحا في عالم الفنون، فيقول إنّها درامية في الغرب، فيها الصراع بين الخير والشرّ وبين الأفكار والمصالح، بينما الفنون العربية الإسلاميّة هي غالبا من الشعر الغنائي، يطلق فيها العنان للخيال وللنوازع الفردية الفردانية. وهذا غير صحيح بشأن الفردانية، فم ما ما يُعاب عادة على العربي والمسلم نزعته القبليّة وتسلّط المجموعة على الفرد. ثمّ إنّ الروح الجماعية عندهما ليست في معزل عن الصراع، إلاّ أنّ الظروف السياسية العالميّة تجعلها، خاصّة اليوم، في مستوى الحياة النباتية لا أمل لها في التطلّع إلى أبعد من ذلك، بينما دلّت على أنّه بإمكانها إسقاط أعتى الحضارات إذا سمحت الظروف لها به.
وبعد، إنّ التسليم للقدر ليس مردّه طبيعة ثقافيّة معيّنة، بل هو في طبيعة الإنسان. وقد رفضها الغربي ضمن حضارة الحداثة التي قامت بإعلاء شأن الإنسان وأقامته مكان الإله. وهذا انتهى مع بداية ما بعد الحداثة وعودتها إلى الثابت الأنثروبولوجي في أنّ الإنسان كغيره من المخلوقات ليس له أن يتحرّر من وضعيته البشرية، فهو لا يمتاز عن غيره من الحيوانات إلاّ بفكره، وله أن يعلو ويتجاوز كلّ الحدود. وتتمثّل صفته الثابتة ككل حيّ في وجود حدّ لن يتمكّن من تجاوزه، وهي نهاية محتومة. هذا هو القدر، وهو اللّه، أي ما هو أعلى من الإنسان.
كما لابدّ لنا من انتقاد تعلّق بن نبي بهذه النظرة الجزئية للأمور التي ع رب رب عنها بعصري ما قبل وما بعد الموحدين، وكأنّ هؤلاء كانوا عُصارة الحضارة الإسلاميّة. هذا إضافة لعدم تخلّصه من عقدة الفتنة التي حدثت بعد وفاة الرسول الكريم كأسطورة لبداية انحطاط العالم الإسلامي، بيد أنّها، في الحقيقة، بداية دخول الإسلام للعالم وما فيه من صراعات. فالحضارة الإسلاميّة لم تبدأ إلاّ مع عصر التدوين ولم تنته إلاّ بغلق باب الاجتهاد. أمّا ما حدث مع قيام الدولة الأموية، فهو خروج الإسلام من النطاق الضيق للدين إلى ساحة السياسة لصفته الثنائية كدين ودنيا. والدنيا لا تحكمها تعاليم الدين إلاّ في الأرضيّة الأخلاقية، بل هي نتاج الصراعات والمجاهدة للنفس البشرية. هذا ما غفل عنه أهل الإسلام بمن فيهم بن نبي. وأنت، سيدي الشيخ، لصفتك كسياسي محنك، أدرى بهذا الجانب للأمور السياسية.
ونلتمس العذر لابن نبي في كلّ ذلك. فكان يصارع وحده وبدون أسلحة، سوى قلمه، على جبهات متعدّدة، هي أوّلا جبهة الاستعمار، خارجيّا وداخليا للقابليّة للاستعمار، وجبهة النزعة الوطنية، خاصّة جبهة الإصلاح الديني والاجتماعي. ورأيي أنه قلّص من حظوظ نجاحه بانعزاله عن العمل السياسي من ناحية، وأيضا ببقائه متشبّثا بفكرة متهافتة تزعم تقسيم الثقافات إلى أنواع، بينما الثقافة واحدة. فهي بشرية إناسية أو لا تكون. لكن لا ينسحب عليكم مثل هذا العذر، شيخ راشد، فقد قدّر اللّه لكم كل الوسائل لتمكين الحضارة الإسلاميّة من البزوغ من جديد على أرض تونس المعطاء.
وفي الختام، أوضّح أمرا لا بدّ من البوح به. لعل ما في الكتاب من لوم أو نقد موجّه خاصّة للشيخ راشد الغنوشي قد يكون مزعجا. ولكنّه نابع من صادق الأحاسيس. إنّه من باب تقريع الأخ لأخيه. مع العلم أ ين ين أربو بنفسي عن استعمال بعض العبارات التي لعلّها تصدم في تعريفاتها المستهجنة ولكنّها صارت سارية، فإنّ استعملتها فقد جاءت في معناها الأصلي الأصيل الذي أتمسّك به )مثال ذلك الماكيافيلية كما بيّنت بالمتن(. تكفيني هنا الإشارة إلى مالك بن نبي، وهو من مراجع شيخنا الغنوشي الذي ركّزت النقد على شخصه في الخواطر والذيل، وذلك لما له وعليه من مسؤولية ودور لإحياء علوم وفنون الإسلام في ربوعنا. لقد تجرأ بن نبي على الاستشهاد بماكيافيل في افتتاحية كتابه، شروط النهضة، فقال ما قاله الداهية الإيطالي : «إن واجب الإنسان الشريف أن يُعلّم للآخرين ما لم تسمح له مظالم الوجود ومكر الظروف أن يُحقّقه، رجاء أن يتمكّنوا، إذا كفتهم قدراتهم وأُتيحت لهم ظروف أنسب، من أن يُحقّقوا ما لم يُحقّقه هو.».
كذلك همّنا في الخواطر وذيلها ليس إلاّ ما كتبه مالك بن نبي في مذكراته : «إنّ أجيال المسلمين تتعاقب لكنّها لا تتوارث، وروح الغرب تشرئب إلى المستقبل بمعايشة الحاضر مع الحرص على النظر إلى الماضي. والملاحظ أنّ المسلمين لم يظهر عندهم في مرحلة ما بعد الموحّدين رجل، من طراز ماكيافيل، حريص على ترك رسالة للأجيال القادمة. إنّهم لم يعرفوا ذلك الرجل العازم على أن يصير في زمنه حامل الرسالة المراد تمريرها إلى حقب التاريخ المستقبلي.» . أمّا ما يعنينا نحن تركه فلا يهمّ شخصنا ولا ذاتنا، فلعلّه يكون إرثا حضاريا تنويريا، فتوجّبت المنافحة عنه من باب إناستنا التمامية. نحن إذن لا نناهض أحدا في إعادة أنواره لخاتم الأديان بصفته الثقافيّة وعلومه الكونية بما أنّه فنّ فنون الروحانية. واللّه أعلم، كما يقول السلف من العلماء العلاّمات. إنّنا أيضا كمالك بن نبي، وهو «شاهد على القرن (عنوان مذكراته)»، لكنّ قرننا جديد في عالم جديد، وقد تنبأ بقدومه. ونحن نعلم أن على رأس كلّ قرن يتحتّم التجديد للدين حتى تكون الشهادة فيه أوّل مهمّة أهله. فكما يقول شاهد القرن المنقضي: «إنّ التاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل (وهو الكامل عندنا، حسب مصطلح التصوّف، أي الإسلام حقيقة) الذي يطابق بين عمله من جهة وأفكاره واحتياجاته من جهة أخرى، والذي يتكفّل بأداء مهمّته المزدوجة المتمثّلة في العمل والشهادة على غيره... ولكي يندمج هذا العالم الإسلامي اندماجا فعليا وفعّالا في سيرورة التطوّر العالمي عليه أن يعرف العالم، ويعرف ذاته، ويُعرّف بنفسه، وينكبّ على تقديم القيم الخاصّة به والقيم المكوّنة للتراث الإنساني.
 
منشورات تبر الزمان، 2017، ص  395